عاصمة الحزن المقدس
قبل أن يسلم «باليان» فارس «مملكة الجنة» مدينة «القدس» للقائد العربي «صلاح الدين الأيوبى» سأله ما الذي تساويه القدس؟ رد صلاح الدين: لا شىء!.. ثم استدار إليه وقال: «وكل شىء»! هى «القدس» عاصمة الحزن المقدس.. الحلم المستحيل للتعايش بين الأديان.. مهد الشهداء والقديسين.. وأرض الصراع الأبدي.. هى دراما الواقع الملتهب بالدماء والمفاوضات والخيانات.. هى الذاكرة الأصلية لتسييس الدين.. وتأليه «الحاكم» ورسم الخريطة السياسية طبقاً للمرجعية الدينية.
وهي محور الفيلم الأمريكي ملكوت السماء Kingdom of Heaven ، الذى أنتج عام 2005 للمخرج الإنجليزي صاحب لقب «سير» والحاصل على جائزة الأوسكار «ريدلى سكوت» الذى قال إنه: «لجأ إلى الماضي ليفسر الحاضر»، حتى نفهم تلك المقولة نبدأ الرحلة من فجيعة الشاب باليان «أورلاندو بلوم» بعد انتحار زوجته وفقد وليده وذبح القسيس لزوجته للسطو على صليبها الذهبي.
وقبل أن يغتاله الإحساس بالذنب لأنه حرق القسيس تأتيه فكرة «الخلاص» على يد جود فرى «ليام نيسن» أحد فرسان الحرب الصليبية الذى يعترف له بأنه أبوه من علاقة غير شرعية بأمه ويدعوه للذهاب معه إلى «القدس».. إذن هو «الجهاد» -بمصطلحات اليوم- الذى يطهر «باليان» من كل الخطايا والذنوب!. وصل باليان الفارس الشاب الذى جاء من قاع المجتمع الفرنسي إلى القدس بلا أي مؤهلات إلا شجاعته وإخلاصه واستطاع أن يصل إلى أعلى مراتب الفروسية، أضف إلى شجاعته وسامته التى اخترقت قلب الأميرة «سبيلا» شقيقة الملك بالدوين الرابع الذى يعانى الجذام والتطرف المسيحي معاً حتى تتشابك قصة الحب الوليدة بين سبيلا وباليان وتتقاطع مع سهام التطرف الديني الذى يقوده زوج سبيلا جى دولوزينيان، والمكائد السياسية التى ينفذها الزوج بأيادى «فرسان المعبد». وحين يموت الملك العادل بالدوين الذى كفل حرية العبادة لكل الأديان وعقد هدنة مع القائد الغربي صلاح الدين «غسان مسعود» هنا تعم الفوضى خاصة مع تنصيب جى ملكاً لأرض الرب.. ويحتدم الصراع الذى يشعله التطرف الديني من الجانبين المسلم والمسيحى لتدق طبول الحرب.
ومع الحرب تصبح رؤية «سكوت» أكثر وضوحاً.. نرى إلحاح رجل الدين الإسلامى «خالد النبوى» لاستعادة القدس فندرك أن «التسامح» فكرة غائبة من القاموس الإنسانى، وأن الفارس باليان الذى يرى أن مملكة الجنة يجب أن تبنى على «الضمير» هو فارس من نسج الخيال، ربما لأنه رفض نصيحة الملكة «سبيلا» التى حذرته قائلة: «ستندم يوماً ما لأنك لم ترتكب قليلاً من الشر حتى يعم الخير!».. أو لأنه ينحاز للفقراء والبسطاء فى الوقت الذى كان الشعب آخر ما يفكر فيه كبير أساقفة القدس حين اقترح الهرب عند حصار المسلمين للقدس وقال: «هذا من سوء حظ الشعب، لكنها إرادة الرب!». هكذا كانت تدار الحروب الصليبية باسم الرب ولصالح البابا أو لحساب الملك.. لكنها فى كل الأحوال لم تكن لحماية المقدسات أو لمصلحة الشعب.. هذا الرأى محسوب على «سكوت» بشكل قاطع.. فعند قيام الملك بالدوين بشنق فرسان المعبد الذين يخرقون بتطرفهم الهدنة مع صلاح الدين، قالوا لباليان: «هؤلاء ماتوا من أجل البابا فى روما، لكن ليس من أجل المسيح».
هل كان ريدلى سكوت يقصد باختياره الحملة الصليبية الثالثة تحديداً أن يبرز الفاتورة الباهظة التى تدفعها الشعوب نتيجة استغلال الدين فى اللعبة السياسية.. أم كان يرمى إلى إذكاء روح التسامح بين الأديان.. أم تراه كان يكفر عن السقطة السياسية لـ«جورج بوش» حين صرح بأن غزوه للعراق «حرب صليبية»؟ هل كان يهدف سكوت إلى تجريد القدس من أى هوية سياسية لتصبح دولة لكل الأديان على نموذج «الفاتيكان» لا هى عربية ولا إسرائيلية؟ كل هذه أسئلة مشروعة طرحت فى الغرب قبل أن يأتينا «سكوت» بحملته السينمائية.
سؤال الغربيين كان فى محله.. لأن الحملة الصليبية الثالثة هى الحملة التى انتصر فيها صلاح الدين على الصليبيين واستعاد منهم القدس بعد معركة حطين، فلماذا اختار سكوت فترة كان فيها «بطل» عربى مسلم هل ليمحو بهزيمة البطل المسيحى خطايا التواطؤ الغربى على العرب ذلك التوقيت الحساس؟.
قد نجد الإجابة فى بضع جمل حوارية دقيقة للغاية: حين يقرر «باليان» بشكل قاطع أن كل الحملات الصليبية التى ذهبت إلى القدس إنما ذهبت من أجل (الثروة والأرض) وليس من أجل المقدسات!.. ثم يخطب فى أهل القدس قبل المعركة الأخيرة قائلا: (كل المقدسات مقامة فوق بعضها، مقدساتكم مقامة فوق مقدسات اليهود، ومقدسات المسلمين فوق مقدساتكم، فأيهم الأحق.. المعبد، أم كنيسة المهد، أم المسجد الأقصى.. «لا أحد لديه الحق، وكلهم لديهم الحق».. نحن لا نحارب من أجل هذه الحجارة.. لكننا نحارب من أجل الناس الموجودين بين هذه الجدران، من أجل حريتهم وسلامتهم!).
لم ينحز «ريدلى سكوت» بشكل فج لديانة عن الأخرى.. لأنه طيلة الوقت كان منحازاً لنفسه.. لرؤيته وتفسيره للحاضر بكشف مشاهد مأساوية من الماضى.
صحيح أنه فجّر بفيلمه عاصفة من الأسئلة.. لكنه أجاب عن أغلبها: فالناس عنده قبل المقدسات.. والأخلاق أهم من الحكم.. والدين يسكن العقل والوجدان ولا يجلس على كرسي العرش.. أما القدس فهى ساحة صراع وليست واحة للتعايش بين الأديان.
تستطيع خلال متابعة المعارك الحربية أن تتخيل للحظة أنك في غزة أو العراق أو سوريا.. وتستبدل كلمة الثروة بكلمة النفط أو الأرض.. وتنتظر ظهور «صلاح الدين» ليحرر الأرض.. لكنه لن يأتي أبداً!.. نحن لسنا فى زمن الفرسان نحن فى زمن يمنحك الحرية على الشاشة فقط.. لا تفتش عن مقدساتك فى القدس.. فنحن فى زمن «الحق الضائع».
سحر الجعارة – الوطن نيوز