الذكاء الاصطناعي في أحضان الصحافة!
بعد أن غزا الذكاء الاصطناعي (AI) العديد من القطاعات إن لم يكن جميعها، وعلى رأسها قطاع الصحافة والإعلام، مثيراً عاصفة من الجدل.
البعض يرون فيه تهديدا للمهنة، والآخرون يرون فيها عاملاً مساعداً قد ينقل قطاع الصحافة والإعلام إلى مستويات غير مسبوقة في إنتاج الأخبار واستهلاكها.
والتكنولوجيا ليست جديدة على الصحافة والإعلام، فقد اقتربت منها وعاصرتها، من صف الأحرف بالرصاص على ماكينات اللينوتيب فى مؤسسة روزاليوسف، وشاهدت المهندس سيف المشرف على القسم فخوراً بالماكينات وهو يتمخطر بينها ليثني على أمهر أبنائه كارم وأنور معروف، وعايشت دخول الكمبيوتر والصفّ الإلكتروني للمحتوى الصحفى المكتوب، الذي حل بأحرفه محل مهنة الخط العربي في صف العناوين والمانشيتات الرئيسية.. وكانت ثورة.
لقد تمتع قطاع الصحافة والإعلام، بتاريخ طويل وحافل مع التكنولوجيا وتطبيقاتها، وذلك في سياق توظيفها في انتاج الأخبار والقصص الصحافية، كانت التكنولوجيا حاضرة في قلب العمل الصحفي تسهم في اتساعه وانتشاره وجعله أكثر تأثيرا مع مرور الوقت حتى باتت الصحافة توصف بالسلطة الرابعة ضمن بنية الدولة الحديثة.
وقد أثبتت الصحافة أنها قادرة على التكيف مع التكنولوجيات الحديثة طيلة قرون، وهو ما تحاول فعله الآن مع الذكاء الاصطناعي. يعود تاريخ الصحافة مع الذكاء الاصطناعي إلى بداية العقد الثاني من الألفية من خلال صعود منصات الصحافة الآلية مثل Narrative Science وAutomated Insights. مثلت هذه المنصات الموجة الأولى من صحافة الذكاء الاصطناعي، حيث قامت بتوظيف الخوارزميات algorithm ” تعبير تجده فى كل مكان على الإنترنت، وهي مجموعة من التعليمات البرمجية التي ينفذها الكمبيوتر “، لإنتاج مقالات في مجالات تعد معلوماتية بحتة في الأساس مثل الصحافة الرياضية، والاقتصادية، والأرصاد الجوية. وقد كانت وكالة Associated Press من أوائل العملاء الذي تبنوا الصحافة المعلوماتية عندما بدأت الوكالة باستخدام برنامج يدعى Wordsmith الذي طورته شركة Automated Insights لإنشاء التقارير المتعلقة بأخبار البورصة وأسواق المال.
ومع تطور البرامج، بات الصحفيون يلجأون إلى الذكاء الاصطناعي للتعامل مع المعلومات والبيانات. رافق ذلك صعود صحافة التسريبات التي كان رائدها جوليان أسانج وموقعه ذائع الصيت WikiLeaks. فقد كان على الصحفيين التعامل مع كميات مهولة من البيانات والتحقق منها. في هذا الصدد يأتي التحقيق فيما يسمى “أوراق بنما” في عام 2016 كمثال بارزا حيث استخدم الصحفيون التعلم الآلي لفحص ملايين الوثائق المسربة لفضح الأنشطة المالية للنخبة العالمية الحاكمة في تعاملاتها الخارجية.
هنا بدأت تتشكل فكرة جديدة في فهم الذكاء الاصطناعي ودوره في عملية الصحافة. فمن خلال عدم اقتصار الذكاء الاصطناعي على فكرة انتاج المحتوى، بل المساعدة متعددة الأوجه، أخذ فهم الصحفيين للذكاء الاصطناعي يتبدل . فلقد أصبح بين يدي الصحافيين الآن أدوات معززة بالذكاء الاصطناعي تمكنهم من اقتراح المحتوى، وضبط التوصيات والترشيحات، والتعمق في جمع البيانات وتحليلها، وصولا إلى أدوات التحقق من الأخبار والتي أصبحت شائعة الآن خصوصا في ظل عصر “ما بعد الحقيقية”، الذي نعيشه حيث تفشت فيه ظواهر الأخبار االمزيفة والتضليل الإعلامي وغيرهما. هنا يمكن للمرء أن يجادل بأن الذكاء الاصطناعي قد أحدث فعلا نهضة في صحافة البيانات مما جعلها أكثر دقة وسرعة وانتشارا.
مع تزايد حضور الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار، برزت مقاربتان علميتان متضاربتان إحداهما مؤيدة لهذا الحضور وتدعم تزايده، والأخرى تحذر منه وتدعو لإبطائه أو حتى التخلص منه. الفرضية الأول، والتي تنتمي إلى تيار التفاؤل التكنولوجي أو كما يسميهم جيمس برايدل في كتابه “عصر مظلم جديد: التقنية والمعرفة ونهاية المستقبل” التسارعيين اليساريين، ترى أن الذكاء الاصطناعي لديه القدرة على تعزيز كفاءة ودقة وانتشار العمل الصحفي. بشكل عام يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي أتمتة المهام المتكررة، وتحليل مجموعات البيانات الكبيرة، وتوليد رؤى وأفكار قد لا تكون في متناول الصحفيين البشر الوصل أو الاستدلال إليها. علاوة على ذلك، توفر الصحافة المدعومة بالذكاء الاصطناعي إمكانية توسيع نطاق إنتاج الأخبار والوصول إلى شرائح أوسع من الجماهير.
على النقيض، هناك مقاربة تيار التشاؤم التكنولوجي الذين يرون أن استخدام الذكاء الاصطناعي في الصحافة يثير مخاوف جمّة بشأن أخلاقيات المهنة، والتحيز المعلوماتي، والمعلومات المضللة، والقضاء على الوظائف. يعترف أصحاب هذه المقاربة بأنه وعلى الرغم من أهمية أدوات الذكاء الاصطناعي في تسهيل العديد من المهمات الروتينية في الصحافة إلا أنه لا ينبغي لها أن تحل محل الصحفيين البشر. ويؤكدون على أن المنظور الإنساني (أو النزعة الإنسانية) يعد ضرورياً لفهم القضايا المعقدة، ووضعها في سياقها، ومراعاة الشروط الأخلاقية. باختصار، يرى أصحاب هذه المقاربة ضرورة النظر إلى الذكاء الاصطناعي باعتباره أداة تكميلية تساعد الصحفيين في عملهم مع الالتزام بالمبادئ المهنية الراسخة للصحافة.
على الصعيد الأكاديمي، برزت في السنوات القليلة الماضية العديد من الدراسات االتي تحاول التصدي ومعالجة المخاوف المتعلقة باستخدام الذكاء الاصطناعي في الصحافة والإعلام. وقد شكلت قضايا الشفافية، والمساءلة، والتعاون بين الإنسان والآلة محور هذه المعالجات.
ففي عام 2016 تطرق المحاضر و الباحث في الصحافة الآلية “دون تدخل بشري” Automated Journalism نيكولاس دياكوبولوس عام 2016 في دراساته إلى قضايا المساءلة والشفافية الخوارزمية وتأثير الذكاء الاصطناعي على إنتاج الأخبار واستهلاكها، ومبادئ الشفافية والأخلاق والعدالة في بناء خوارزميات الذكاء الاصطناعي، مؤكداً أن الخوارزميات يمكن أن تحتوي بطبيعتها على تحيزات، مما يعكس المفاهيم المسبقة لمطوريها أو مجموعات البيانات المستخدمة للتدريب. بناء عليه، يمكن أن يكون لمثل هذه التحيزات آثار سلبية عند استخدامها في الصحافة، حيث يتزايد استخدامها في عملية إنشاء المحتوى، واقتراح المقالات، والتأثير على نتائج محركات البحث. لذلك يقترح تعزيز “أنظمة الذكاء الاصطناعي العادلة” التي تتبع عمليات فحص وتقييم معمقة منعاً للتحيز في سلوكها. وعليه يؤكد دياكوبولوس على ضرورة الرقابة البشرية في الصحافة، مجادلًا بأن الذكاء الاصطناعي، يجب أن يكون بمثابة أداة تكميلية وليس بديلاً للصحفيين البشر. ففي كتابه “كيف تقوم الخوارزميات بإعادة كتابة وسائل الإعلام”، ويؤكد أن الإشراف البشري أمر بالغ الأهمية لوضع التغطية الصحافية في سياقها ومراعاة الاعتبارات المهنية والأخلاقية في إعداد التقارير وكتابة الأخبار.
أما ميريديث بروسارد وفي كتابها “اللاذكاء الاصطناعي: كيف تسيء أجهزة الكمبيوتر فهم العالم” فتدرس حدود الذكاء الاصطناعي والإشكاليات المحتملة للاعتماد بشكل كبير على أنظمته الخوارزمية، بما في ذلك في مجال الصحافة. تسلط الضوء بشكل أساسي على مسألة التحيزات وعدم الدقة المتأصلة في خوارزميات الذكاء الاصطناعي وتؤكد على أهمية وضرورة بقاء الحكم البشري في الممارسة الصحفية. وتذهب بروسارد إلى ضرورة اتباع نهج متوازن يراوح بين استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي من جهة والرقابة البشرية من جهة للحفاظ على صحافة مهنية ومسؤولة.
وعن حدود الدور ما بين الإنسان والآلة في العمل الصحفي يشير سيث سي لويس في كتابه “حدود الصحافة: الاحتراف والممارسات والمشاركة” إلى الاستراتيجيات والممارسات التي ينبغي على الصحفيين استخدامها لتحديد أدوارهم المهنية وصلاحياتهم والحفاظ عليها، لا سيما في سياق التطورات التكنولوجية وما يواجهونه من تقنيات حديثه والتي يمكنها أداء المهام المخصصة تقليديًا للصحفيين البشر. فيمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعي أداء مهام مثل فرز وتحليل البيانات، وإعداد التقارير الأولية، وحتى إنشاء بعض أشكال المحتوى، إلا أنها تفتقر إلى الفهم الدقيق، والتفسير السياقي، والتفكير النقدي والأخلاقي الذي يتمتع به الصحفيون البشر ، و عليه ستقتضي آلية تقسيم العمل تحديد ما يجب أن يكون آلياً وما يجب أن يبقى بشرياً تحت نطاق صلاحيات الإنسان.
مودي حكيم – بوابة روز اليوسف