تحقيقات وتقارير

لماذا الحرب؟ تأملات في أسباب تكرار الصراعات الإنسانية

تمثّل الحرب، كظاهرة مستمرة في التاريخ البشري، جانباً معقداً، ومتعدّد الأبعاد من تفاعلات البشر. ويرجع استمرار الحرب عبر العصور إلى عوامل رئيسة عدّة، تشمل البيولوجية، الاقتصادية، الثقافية، والسياسية، وهذه تتفاعل معاً، لتشكل دافعاً دائماً للنزاعات التي تخلف كوارث طويلة الأمد.

يتناول المؤرخ ريتشارد أوفري في أحدث أعماله «لماذا الحرب؟»، سؤالاً يؤرّقه باستمرار ويرى أنّه شكّل الحضارة الإنسانية: لماذا كانت الحرب سِمة ثابتة في التاريخ البشري؟ هذا السؤال ليس جديداً؛ فهو يردّد صدى الاستفسارات التي طرحها مفكرون مثل ألبرت أينشتاين، وسيغموند فرويد، في أوائل القرن العشرين. ومع ذلك، فإن نهجه في معالجة هذا الاستفسار القديم شامل، إلى حد كبير.

الدوافع وراء الحروب

يدور الكتاب حول المحرّكات الرئيسة للحرب، حيث يتعامل مع كل منها كظاهرة منفصلة، ولكنها مترابطة في الوقت عينه. ويتعمق أوفري في كيفية مساهمة الضرورات البيولوجية والاستعدادات النفسية، مثل مفهوم فرويد عن «دافع الموت»، في الصراع البشري. وهو يقرن هذه المناقشات بتحليلات لكيفية تطوير المجتمعات والثقافات للمعايير والممارسات التي يمكن أن تؤدي إلى تفاقم الصراع، أو تخفيفه. وعلاوة على ذلك، يعاين البحث عن الموارد، والسعي إلى السلطة من قبل القادة والأمم، والسعي إلى الأمن، كعوامل دفعت المجتمعات، تاريخياً، إلى الحرب.

ويهدف كتاب أوفري الصادر عن دار نشر «دبليو نورتون آند كومباني» باللغة الإنجليزية، ضمن 304 صفحات، إلى استكشاف الطرق العديدة التي فُسّرت بها الحرب عبر التخصصات الأكاديمية الرئيسة منذ الحوار الملحوظ، وإن كان غير محسوم، بين فرويد وأينشتاين. يقسم هذا العمل هذه التفسيرات إلى فئتين: فئة ترى الحرب نتيجة لعوامل تطورية، أو ثقافية أو بيئية، وأخرى تركز على الإدراك البشري، والوكالة.

يعاين القسم الأول من الكتاب، بدقة، كيف قام المتخصصون في علم الأحياء، وعلم النفس، وعلم الإنسان، وعلم البيئة، بتأطير الحرب وفقاً لوجهات نظرهم، حيث يفترضون أنه قد ينظر إلى الحرب على أنها تكيّفية تطوريّة، أو محدّدة ثقافياً، أو استجابة للضغوط البيئية، حيث يتم وضع البشر غالباً كموضوعات لهذه القوى الساحقة. هذه ليست مجرد نظرية يطبّقها المؤلف على الصراعات التاريخية والمعاصرة، بل يقدم نظرة شاملة لانتشار الحرب عبر العصور.

وعلى النقيض من ذلك، يحوّل الكاتب في الجزء الثاني من العمل تركيزه إلى وجهات نظر العلوم الإنسانية والاجتماعية، حيث يحلل الحرب من خلال عدسة الإدراك البشري. هنا، يرى أن المؤرخين، وعلماء الاجتماع، والمحللين السياسيين، ينظرون إلى البشر باعتبارهم مبدعين نشطين لثقافات تديم الحرب، ووكلاء واعين يطاردون أهدافاً متنوعة، بمرور الوقت. ويصنف هذا الجزء الدوافع وراء الحرب ضمن أربعة مجالات: الموارد، والمعتقد، والقوة، والأمن. ويبين أن هذه الدوافع توجّه الصراعات بين الدول الحديثة، وتثير المناوشات القديمة بين المجتمعات ما قبل الدولة، ما يشير إلى أن مثل هذه العوامل هي محركات عالمية للصراع البشري.

الأنظمة الشمولية والحروب

ويتطرق أوفري إلى القصص التاريخية المشوقة، مثل سياسات التوسع التي انتهجتها الإمبراطورية الرومانية، وفتوحات الإسكندر الأكبر، والأنظمة الشمولية التي حكمها نابليون، وهتلر. ومع ذلك،لا يقدّم نظرة متفائلة بشأن إمكانية مستقبل خالٍ من الحرب؛ بل بدلاً من ذلك يطرح وجهة نظر واقعية، مفادها أن الحرب قد تكون عنصراً لا ينفصل عن الحالة الإنسانية.

وعلى الرغم من التأملات القاتمة التي قد يستحضرها، فإن الكتاب يمثل بلا شك مساهمة كبيرة في الدراسات التاريخية، حيث يقدم رؤى عميقة وضرورية لأي شخص يسعى إلى فهم أحد أكثر التحديات إلحاحاً التي تواجه البشرية.

يستخدم المؤلف نهجاً يسمح للقراء بالتنقل عبر النظريات المعقدة، والأحداث التاريخية بسهولة. والكتاب مقسم إلى فصول يتناول كل منها جانباً، أو محرّكاً محدداً للحرب، ما يوفر بنية واضحة توجه القارئ عبر شبكة معقدة من الأسباب، والنتائج. ومن خلال ربط الحروب الماضية بالصراعات الحالية، مثل الوضع الجاري في أوكرانيا، لا يوفر أوفري السياق التاريخي فحسب، بل يحث أيضاً على التأمل في الطبيعة الدورية للحرب، والدروس التي تظل غير مسموعة. ولا يعمل هذا النهج على تعميق فهم القارئ للتاريخ فحسب، بل يؤكد أيضاً على ضرورة التعلم من الماضي للاستفادة منه في اتخاذ القرارات الحالية، والمستقبلية.

وإضافة إلى التحليل التاريخي، يدمج أوفري مناقشته حول الطرق المحتملة للتخفيف من الميل إلى الحرب، على الرغم من أنه يحافظ على منظور واقعي حول التحديات التي تنطوي عليها. ويستكشف أدوار الدبلوماسية الدولية، والترابط الاقتصادي، والتبادل الثقافي في تعزيز السلام والحد من احتمالات الصراع. ورغم أنه لا يقترح أن هذه الاستراتيجيات هي حلول مضمونة، فإن استكشافه لهذه المجالات يوفر لمحة متفائلة حول إمكانات الحد من تكرار الحروب، وشدّتها.

يبذل ريتشارد أوفري جهداً كبيراً لتفكيك الأسباب الكامنة وراء الصراع البشري، ولكن قد يظهر أن الكتاب يتجنب أحياناً، نقداً كاملاً للمؤسسات والأيديولوجيات التي تديم الحرب. وفي حين يقدم أوفري نظرة شاملة على الأسس البيولوجية والنفسية للصراع، نجد أن ثمّة حاجة ملموسة لمواجهة أكثر مباشرة مع الكيفية التي تحفز بها الدول الحديثة والأنظمة الاقتصادية، الحرب. على سبيل المثال، كان من الممكن أن يوفر استكشاف أعمق للمجمع الصناعي العسكري نقداً أكثر حدّة لكيفية عدم كون الحروب مجرد نتيجة لزخم تاريخي، أو طبيعة بشرية، بل إنها غالباً ما تصنعها هياكل القوة المعاصرة التي تسعى إلى تحقيق مكاسب اقتصادية.

دعم جهود بناء السلام

على الرغم من غناه بالبيانات والرؤى التاريخية، يتجاهل أوفري أحياناً الآثار الأخلاقية للحرب، بما في ذلك تبرير جرائم الحرب، والتأثيرات الطويلة الأجل في السكان المدنيين، إذ ربما تتطلب أكثر من مجرد ذكر عابر. على سبيل المثال، في مناقشة زعماء، مثل نابليون وهتلر، يظل التركيز غالباً على التحليل الاستراتيجي والنفسي، بعيداً إلى حدّ ما، عن المعاناة الإنسانية العميقة التي تسببت بها حملاتهم.

إضافة إلى ذلك، يقدم الكتاب بمهارة، خرائط للدوافع المختلفة وراء الحرب، إلا أنه يفشل في تحدي القارئ للنظر في تواريخ بديلة، مثل: ماذا لو تم تجنب حروب معينة؟ ما هي جهود بناء السلام التي نجحت، ولماذا؟ ومن خلال عدم مقارنة تكرار الحرب بإمكانية السلام المستدام، فإن نقاش أوفري يخاطر بتعزيز الشعور بالحتمية بشأن الحرب التي يتحداها العديد من الخبراء، ونشطاء السلام.

ومن خلال الانتهاء بملاحظة تؤكد التوقعات القاتمة لميل البشرية إلى الصراع، قد يترك الكتاب القراء يشعرون بالاستسلام، بدلاً من التحفيز على دعم، أو المشاركة في جهود بناء السلام، ولكنه، على العموم، كتاب قيّم يدرس أبشع ما عانته البشرية.

عن المؤلف

ريتشارد أوفري
ريتشارد أوفري مؤلف للعديد من الكتب التاريخية البارزة عن الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك كتاب «لماذا انتصر الحلفاء»، و«الدماء والأطلال». وقد فازت دراسته عن هتلر وستالين، «الديكتاتوريون»، بجائزة وولفسون للتاريخ؛ وهو يقيم بين إنجلترا وإيطاليا.

صحيفة الخليج

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى