النموذج الأمريكي في المرآة
بدأ السباق الرئاسي الأمريكي بين المرشح الجمهوري دونالد ترامب، والديمقراطية كامالا هاريس، يتشعب في خضم معركة سياسية شديدة الوطأة على الولايات المتحدة التي تقف عند منعرج استراتيجي خطر، تتقاطع فيه أجندتان متباينتان، لا تكادان تتفقان على شيء إلا على أن تطيح واحدة بالأخرى، أو هكذا يبدو لكل من يتابع مسار هذه الانتخابات الفارقة التي تفرض على النموذج الأمريكي أن يتمعن تفاصيله طويلاً في المرآة.
قبل بداية السباق رسمياً بين الخصمين، تخيّم على الأجواء مخاوف من ركود اقتصادي محتمل في الولايات المتحدة، ما أثار ذعر الأسواق الدولية، بالتوازي مع زيادة القلق العالمي من تصاعد وتيرة التوتر القائم في الشرق الأوسط، وأوروبا، الأولى بفعل تداعيات الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة، والثانية جراء الصراع الدائر في أوكرانيا، وكلاهما وثيق الصلة بواشنطن التي تحاول الحفاظ على مصالحها ونفوذها، وتخشى من فقدانهما إذا جرت الرياح بما لا تشتهيه استراتيجيتها للدفاع عن مكانتها الدولية.
وربما للمرة الأولى منذ حرب فيتنام، تصبح الأوضاع الخارجية لها الكلمة الفصل في السباق الانتخابي الأمريكي، فهذا ترامب، الذي يحاول تقمّص وجهٍ جديدٍ لرجل يعمل من أجل السلام، يتعهد بين الفينة والأخرى بإنهاء الحرب في أوكرانيا خلال 24 ساعة، وإنهاء الصراع الدائر في الشرق الأوسط، ويقول إنه الوحيد القادر على منع حرب عالمية ثالثة، ويتهم القيادة الديمقراطية بجر الولايات المتحدة إلى نهاية مؤلمة جرّاً، من دون وعي منها بسبب ما يعتبره عجزاً ديمقراطياً عن إدراك العواقب. وفي المقابل يتلقى المرشح الجمهوري انتقادات لاذعة تصل إلى حد الإهانات من خصومه، فقد اعتبرته حملة هاريس متطرفاً، وصانع مشاكل، ومعادياً للحرية، والنساء، والأجانب، ويعمل على تدمير الحضارة الأمريكية. وفي ضوء هذا التراشق الحاد بين الطرفين، ستكون المعركة الانتخابية مطحنة للعظام، لا كسرها فقط، وربما تتخللها مشاهد درامية لم تكن متوقعة على الإطلاق.
المشهد السياسي، في أي بلد كان، لا تشكله الصدفة، أو الأهواء الشخصية، بل تصنعه التفاعلات، والأزمات، وهو ما تعيشه الولايات المتحدة منذ أكثر من عقدين، عندما توهمت أن الدنيا دانت لها، واستتبت لها السيطرة على العالم، لتتفاجأ، في سنوات قليلة، بمواجهة هزات داخلية وخارجية، عنيفة أفقدتها الكثير من توازناتها، الداخلية والخارجية. وبات الخلاف العميق، وغير المسبوق، بين الديمقراطيين والجمهوريين، يعبّر عن وضع استثنائي، ومنذ صعود هذا الدولة كقوة عظمى أواسط القرن الماضي، لم تشهد انقساماً عمودياً يفصل شريحتين من النخبة السياسية من القمة إلى القاع، ويخلق فجوة فكرية، وحتى عقائدية. وعندما تكون الحملات الانتخابية خليطاً بين الجد والعبث، وتتخللها خطابات مشحونة بعبارات السخرية، والازدراء، والكراهية، يتأكد، بما لا يدع مجالا للشك، أن الواقع الأمريكي يمر بمرحلة فاصلة، يشوبها غموض، وفوضى، وقلق يعبر عن محركات تاريخية لا تتوقف كثيراً على المسلمات، وربما تنسفها من أساسها. فبعد أكثر من قرنين من الديمقراطية الأمريكية، أصبح هناك من يشكك فيها علناً، بينما تطغى الفردية والشخصنة، لا الزعامة والكاريزما، على الحزب والمؤسسة، وهذا بالفعل، ما تعيشه الولايات المتحدة في هذه الفترة، وسيكون على الانتخابات المقبلة أن تحسم الجدل، وتبدّد كل هذه المخاوف، إن وجدت إلى ذلك سبيلاً.
مفتاح شعيب – صحيفة الخليج