آراء

كهنة «آخر الزمان»

لا يتحرك الكاهن الناجح بالصورة فقط، بل بالصوت أيضا، وقد حكيت لك عن الصورة العجائبية التي كان عليها «سطيح»، أشهر كاهن عربي قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن تلك الصورة هي المصدر الوحيد لما تمتع به من سطوة وتأثير على المتعاملين معه، بل تكامل معها الصوت أو اللغة التي يتحدث بها عن المستقبل، وهى لغة تعتمد على الجمل القصيرة المسجوعة، وتجمع ما بين الوضوح والغموض، والمعلوم والمتوقع.

انظر إلى «سطيح» وهو يتحدث إلى العرب، قبل بعثة النبى صلى الله عليه وسلم: «أنتم يا معشر العرب فى زمان الهرم، سواء بصائركم وبصائر العجم، لا علم عندكم ولا فهم، وينشأ من عقبكم ذوو فهم، يطلبون أنواع العلم، فيكسرون الصنم، ويبلغون الردم، ويقتلون العجم، يطلبون الغنم».

بعد هذا التمهيد العام الذى يصف حالة التضعضع والضعف التى أصابت العرب، وكيف شاخت الأمة، وأصابها الجهل والعمى، وأن الأمل فى جيل يخرج منهم، يكسر الأصنام، ويؤمن بالوحدانية، وهو الجيل الذى سوف يقوده فتى منهم، كما ذكر لهم «سطيح»: «ليخرجن من هذا البلد فتى يهدى إلى الرشد، يرفض يغوث والفند، يبرأ من عبادة الضدد، يعبد رباً انفرد»، إنه النبى صلى الله عليه وسلم الذى خرج من مكة، يهدى إلى الرشد، ويرفض الشرك، ويدعو إلى عبادة الواحد الأحد.

المتأمل للغة الحكي «السطيحى» يجد نفسه أمام البناء المعتاد الذى يدور في فلكه خطاب «آخر الزمان»، إنه عادة ما يبدأ بوصف حالة التراجع التي تصيب المجتمع الذى يعيش «آخر زمانه»، والتي تمهد لميلاد عصر جديد يخرج من رحم الضعف الذى بات يلف جوانبه، وذلك ما توقعه «سطيح» لعرب الجاهلية، فقد كانوا يعيشون آخر زمانهم، وكانت إرهاصات الفجر المحمدي الجديد تلوح في الأفق، لتأخذهم من حالة الضعف والتضعضع إلى زمن جديد يستردون فيه عافيتهم ويسيطرون على من حولهم.

ويكتمل البناء الخطابي بمد حبل التوقعات على امتداده، فالمسألة لم تتوقف بالنسبة لـ«سطيح» عند حد وصف اللحظة الحاضرة، وتوقع التحول المفصلي القادم، بل تجاوزه إلى توقع فصول الأحداث بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

قال «سطيح» للعرب: «ثم يتوفاه الله محموداً، من الأرض مفقوداً، وفى السماء مشهوداً، ثم يلى أمره الصدِّيق، إذا قضى صدق، في رد الحقوق لا خرق ولا نزق، ثم يلى أمره الحنيف، مجرب غطريف، ويترك قول العنيف، قد ضاف المضيف، وأحكم التحنيف، ثم يلى أمره داعياً لأمره مجرباً، فتجتمع له جموعاً وعصباً، فيقتلونه نقمة عليه وغضباً، فيؤخذ الشيخ فيذبح إرباً، فيقوم به رجال خطباء، ثم يلى أمره الناصر، يخلط الرأي برأي المناكر، يظهر في الأرض العساكر، ثم يلى بعده ابنه، يأخذ جمعه، ويقل حمده، ويأخذ المال ويأكل وحده، ويكثر المال بعقبه من بعده، ثم يلى من بعده عدة ملوك، لا شك الدم فيهم مسفوك».

يكاد يكون المؤرخون قد وظفوا كلام «سطيح» وغيره من الكهنة كأداة لإقناع الأجيال المختلفة من المسلمين أن تفاعلات الصراع على الحكم بعد وفاة النبى كانت حتماً محتوماً، توقعه الكهنة قبل الزمان بزمان.

د. محمود خليل – الوطن نيوز

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى