سيرة مجدي يعقوب
قبل سنوات طويلة قال والد مجدى يعقوب عن ابنه: «إنه يفتقر إلى المزاج اللائق ليكون جراح قلب»، لكن خاب ظنه، وهى خيبة تسعد الأب بابنه دون شك، فبعد عقود يقول عنه السير نيلش سامانى المدير الطبى لمؤسسة القلب البريطانية: «يعقوب كان رائداً فى تحسين جراحة القلب على المستوى الدولى، وخاصة فى البلاد الفقيرة، حيث بذل فيها وقته وطاقته الهائلة.. وتأثيره العالمى فى المجال منقطع النظير».
قابلت «يعقوب» مرة واحدة، وكنا مع آخرين فى دعوة على إفطار رمضانى، جلسنا بعده فى نقاش، فوجدته يقول لى، حين شرعت فى الحديث: لا بد أن أسمع منك فى مسائل سياسية وأفكار تخص واقعنا. ابتسمت وقتها، وقلت له: لا بد أن السير يعقوب يعرف كثيراً. ملأت الابتسامة وجهه، وقال: أعرف طبعاً فى الطب، لكن أنا بحاجة إلى أن أسمع فى غيره.
إنها إجابة لا ترد إلا على لسان رجل متواضع، مُبرّأ من الآفة التى ملأت حياتنا، حين يتوجه الناس، بل برامج التليفزيون، إلى نجم فى التمثيل أو الطرب أو كرة القدم ليسألوه فى كل شىء: الأدب والفكر والسياسة والاقتصاد وحال المجتمع.. إلخ. والعجيب أنه لا يرد سائله، إنما يهز رأسه، ويسهب فى إجابات فارغة.
إجابة «يعقوب» لا يمكن أن تأتى أيضاً إلا على لسان رجل لا يكف عن الشغف بكل ما هو جديد، ولا يزال يتطلع إلى المعرفة والتعلم، رغم بلوغه السابعة والثمانين عاماً، مخلص لمبدأ يؤمن به، كما ورد فى سيرته، وهو: «البحث عن الحقيقة من خلال العلم».
بهذه الروح أقبلت على قراءة كتاب «مذكرات مجدى يعقوب.. جرّاح خارج السرب»، وألّفه اثنان من أبرع صحفيى «التايمز»، هما سيمون بيرسن وفيونا جورمان، اللذان أجريا حوارات مطولة مع «يعقوب» على مدار ثلاث سنوات، حتى أنهيا الكتاب، لتصدر نسخته الإنجليزية عن الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وبرعاية من مكتبة الإسكندرية، ثم وقع اختيار مؤسسة مجدى يعقوب على الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة فأصدرته باللغة العربية قبل شهرين تقريباً، بترجمة البارع أحمد شافعى، الذى يقول: «اعتبرت الكتاب فرصة سنحت أمامى لأقول شكراً لمجدى يعقوب.. أنا ممتن لهذا الكتاب الذى جعلنى أعيش مع مجدى يعقوب شهوراً من الجمال».
يتوقف قارئ الكتاب ابتداء عند المقدمة التى كتبها الطبيب العظيم، مؤسس مستشفى الكُلى بالمنصورة، د. محمد غنيم، الذى نظر إلى «يعقوب» من منظور يؤمن به «غنيم» دوماً، وهو مساعدة الفقراء، مبيناً أن نشاط «يعقوب» لم يقتصر على بلده الأم، بل تطوع لعلاج مرضى وتدريب أطباء فى بلادٍ أخرى فى أفريقيا، تُعانى من فقر الموارد المادية والبشرية.
ولم يحد «غنيم» عن الحقيقة فقد كان من جملة مرضى «يعقوب» أثرياء وذوو سُلطة من الرجال والنساء، لكن كان منهم أيضاً بعض أشقى أهل الأرض، بل كان الفقراء لا الأثرياء هم شغله الشاغل.
ويمضى غنيم: «إنجازات الدكتور مجدى العلمية والعملية فى مجال الطب لا تخفى على أحد، وقد استحق عليها أن تمنحه ملكة إنجلترا لقب سير – وهو شرف عظيم يتطلع إليه الكثيرون – لكن هذا كله يتضاءل بجانب تفانيه فى عمله بإنسانيةٍ رفيعة، مع سمو الاستغناء، وبساطة العيش لجلب سعادة الشفاء للكثيرين».
وهناك مقدمة ثانية للدكتور مصطفى الفقى وصف فيها «يعقوب» بأنه أيقونة إنسانية نعتز بها جميعاً، ونرى أن سيرته الذاتية هى ذخيرة أكاديمية وأخلاقية للأجيال القادمة.
وتوجد مقدمة ثالثة بقلم الفيزيائية السيدة مارى آرتشر التى تصف «يعقوب» بأنه «عبقرى، مغامر، طبيب ملهِم، جرَّاح قلب رائد، عالم صاحب ريادة فى الطب الحيوى، صديق رؤساء وملوك ووزراء وفقراء وبائسين، حاصل على قلادة النيل، وزميل للجمعية الملكية، وحاصل على وسام الاستحقاق، وهو على رأس ذلك كله ذو أعمال إنسانية عظيمة».
إن الكتاب يسرد، بطريقة شيقة حياة «يعقوب» منذ ولادته، وحتى صار ملء السمع والبصر، ومن تفاصيل كثيرة ندرك أننا أمام رجل متواضع، عاش يراكم المعرفة فى تخصصه المهم، مثلما عاش كثير من الناس غيره يراكمون الثروة، وقدم مصلحة المجتمع على المصالح الشخصية الضيقة، وتعامل مع الطب على أنه وسيلة مهمة وعملية من وسائل النضال فى سبيل وجود عالم منصف، أو يعرف قدراً معقولاً من العدل والمساواة.
لا يكتفى الكتاب بإخبارنا عن أمجاد «يعقوب» فى الطب، إنما يعرض جوانب عادية من حياته، يتشابه فيها مع كل الناس، فهو رجل يحب أسرته، التى تتكون من زوجته الألمانية، وأبنائه الثلاثة الذين يعملون الآن فى مدن: هوشى منه، ولشبونة، ولندن، ويلتقى أصدقاءه للثرثرة على طعام أو شراب، ويعشق سماع الموسيقى الكلاسيكية، ومن هواياته زراعة الورد فى قطعة أرض يملكها، والولع الخفى بالسيارات السريعة، وإن لم يكن بارعاً فى هذا كثيراً.
ومن تفاصيل شخصية «يعقوب» وحياته أنه لا يميل إلى الراحة إلا قليلاً، إذ إنه يدمن العمل كثيراً، ويعطيه أغلب وقته، ويقرأ فى سرعة. ومن تفاصيل إنجازه العام أن أفكار الرجل ألهمت أجيالاً من الأطباء، وحفَّزت على البحث، وأفضت إلى فتوح طبية مهمة. كما أنه أنقذ الكثير من الأنفس.
عمار علي حسن – الوطن نيوز