آراء

تفكير وتبصير

التهديدات تهطل حولنا بغزارة وصرنا نشعر كأننا فى رحلة إلى الجحيم، فالأجواء الدولية مشحونة والصراعات الحالية تشبه ما أشعل الحرب العالمية الثانية، والناس يتساءلون عن احتمالية نشوب الثالثة ويبحثون عن إجابات لما يؤرقهم. فى مثل هذه الظروف الصعبة التى امتدت بعد أزمات جائحة كورونا صرنا نعيش باحثين عن النفس الضائع ونتلمس خطانا. نسمع كلام عرافة هنا وأخرى هناك، ونهلل حين تصدق بعض التنبؤات ونردد بالطبع «كذب المنجمون ولو صدقوا»، لكن ننشغل رغم كل التحفظات بفكرة كونها على علاقة «بمجلس قيادة الكوكب» أو هى فعلا تتبع حدسها وإلهامها ولديها قدرات غير عادية. يظهر على الشاشات من يتكهن بوقوع أحداث مؤسفة على تلك الحدود أو انتشار الفوضى فى أحد الممالك وتأجج الصراع واتساعه، ثم يتبع ذلك بتوقعات أن يشهد الشتاء القادم موجات برد غير مسبوقة إلى ما غير ذلك من كوارث قد نكون على موعد معها. لا نكتفى بتكهنات من هم على قيد الحياة، بل نبحث فى دفاترنا القديمة لنستعيد تنبؤات تحققت بالفعل وأصحابها غادرونا. ننشر صور «بابا فانجا – الجدة فانجا»، العرافة البلغارية الشهيرة فانجيليا جوشتيروفا (1911-1996) التى توفيت بسرطان فى الثدى عن عمر يناهز خمسة وثمانين عاما، وتحول منزلها فى مدينة بيتريتش إلى متحف منذ سنة 2008 بناء على وصيتها.
امرأة عمياء قلبت الدنيا رأسا على عقب، جذبت الانتباه خلال الحرب العالمية الثانية بسبب قدرتها على الشفاء والعِرافة، وزارها العديد من الساسة والمشاهير مثل القيصر البلغارى بوريس الثالث ورئيس الوزراء السوفيتى بريجينيف. حدثت نقطة تحول فى حياتها، بحسب روايتها، حين رفعها إعصار فى الهواء وألقى بها فى حقل قريب، وعندما تم العثور عليها كانت خائفة للغاية وعيناها مغطاة بالغبار والرمال حتى أنها لم تتمكن من فتحها لشدة الألم. خضعت لعلاج جزئى وفقدت البصر تدريجيا. توقعت انفجار مفاعل تشرنوبل النووى ومقتل الأميرة ديانا وهجمات الحادى عشر من سبتمبر وفوز يلتسين فى انتخابات عام 1995 وظهور شخصية روسية بارزة باسم «فلاديمير» على رأس العالم. تركت لنا إرثا من التنبؤات الممتدة حتى 5079، معتبرة أنه تاريخ نهاية الكون. وقالت ضمن ما قالت إن سنة 2025 ستكون فارقة أو بمثابة بداية النهاية.
• • •
كل هذه الحكايات قد تمر علينا مرور الكرام من باب التسلية والترفيه عن النفس التى أصابها الوهن، لكنها بالنسبة للبعض هى وسيلة للتغلب على القلق والضغط العصبى، هناك من يريد أن يقطع الشك باليقين مهما كانت النتيجة ولا يحتمل أن يظل فى انتظار المجهول. وهو ما يسفر عن ارتفاع درجة الإقبال على المنجمين وقراء الطالع والفلكيين فى أماكن متفرقة من العالم، وذلك منذ تفشى الكورونا واندلاع حرب أوكرانيا. وكلما ازدادت الأوضاع سوءًا كلما تضاعف عدد الزبائن الذين يشترون أيضا كتب التنمية البشرية ويتوجهون إلى أربابها للحصول على المشورة والنصح، فوفقا لمنظمة الصحة العالمية نسبة الأشخاص الذين يعانون من أعراض اضطراب القلق والاكتئاب المختلط ارتفعت بمعدل 25% منذ الجائحة. الأرقام أثبتت أنه خلال فترة الحرب العالمية الثانية، صار المواطنون أكثر تعلقا بالغيبيات، وهو على الأرجح ما نشهده حاليا أيضا رغم غياب الإحصاءات الدقيقة فى منطقتنا العربية وعِلما بأن هذه الأمور مكروهة دينيا وقد تفتح الباب أمام أعمال النصب والاحتيال. لكن هناك من هو على استعداد لأن يبحث فى أعماق البحر أو يصعد إلى أعلى قمم الجبال، طلبا للراحة. يريد أن يترك كل شىء وراءه ويبدأ من جديد. تعب من ترديد «العين بصيرة واليد قصيرة»، وسأم من عنجهية المستعمر، ولم يعد قادرا على مراقبة هؤلاء الذين يلتهمون رءوسا وسيقانا وأضلعا ويمصون أصابعهم وهم يجلسون أمام مواقد الشواء. أنهكه أن يراقب أضواء المدن وهى تنطفئ واحدة تلو الأخرى، ويحلم باستبدال الكوكب.
• • •
أقابل كل يوم فى الشارع مثل هؤلاء. يمشى البعض وهو يكلم نفسه حرفيا تحت وطأة الضغوط النفسية والعصبية. يحركون الأيدى والشفاه ولا يوجد من يشاركهم الحديث. يناقشون شئون الحياة بصوت مرتفع. يدخلون فى حوار داخلى مع النفس. يفكرون فيما يشغلهم محاولين الوصول إلى حل مناسب. يسترجعون بعض الذكريات المرتبطة بما يدور فى أذهانهم، فاللغة تساعد على تنشيط الذاكرة والتحكم فى معرفة الأشياء. قد لا يلاحظون أن الآخرين ضبطوهم متلبسين، وأن صوتهم أعلى قليلا مما ينبغى، وعندما يكتشف أحدهم أن هناك من يراقبه يخجل من حاله ويبتسم. وفى أحيان أخرى يبادر بالحديث، فهو بحاجة إلى الفضفضة مع غرباء لا يعرفونه ولا يعرفهم. يشكى لهم نقص دواء السكر والضغط وعدم احتماله للذل والعجز وقلة الحيلة والافتراءات.
تصادف أن أكون الطرف الآخر الذى يستمع لأحاديث الغرباء وأحاول أن أخفف عنهم بابتسامة ودودة بلهاء. وحين لا أجد ما يسعفنى من الكلمات، أستعير عبارات من حكاية الكاتب إدواردو جليانو حول الإنسان والذئاب فى سياق الحديث عن الافتراءات: «الذئاب ليست متفرغة، مثلنا، للإبادة المتبادلة. للذئاب سمعة سيئة، ولكن ليسوا هم من يحولون العالم إلى مستشفى مجانين هائل ومقبرة عامرة».

داليا شمس – بوابة الشروق

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى