انطلقت فكرة المواطنة من انتماء أفراد المجتمع لوطنهم، ووعيهم بمضمون حقوقهم وواجباتهم ومدى التزامهم ومشاركتهم في تفعيل تلك الحقوق والواجبات من ناحية، وخيارات خدمة المجتمع واكتساب احترامه من ناحية أخرى، لذا فإنها تتعلَّق بقدرتهم على إحداث مشاركة فاعلة قائمة على قيم التسامح والحُرية والتنوُّع الإيجابي، والتي تعكس انتمائهم للمجتمع و ولائهم له.
ولقد اكتسب مفهوم المواطنة تطوُّرا كبيرا في العقود الماضية من خلال ما يرسخِّه من مبادئ اجتماعية ربطت بين المجتمع وأفراده عبر عقد اجتماعي يقوم على المشاركة، إلاَّ أن هذا المفهوم اليوم يمر بمنعطفات مهمة بناء على تلك المتغيرات والتطورات التي طرأت على المجتمعات الحديثة، واستطاعت أن تؤثر على أصول العديد من مجتمعات العالم ومبادئه؛ حيث قادتها نحو الانجراف والتقليد الأعمى لما يمكن أن يؤدي إلى تشويه مرتكزاتها الدينية والأخلاقية، وبالتالي يقضي على خصوصيتها وهُويتها الوطنية.
إن ما يحدث في العالم من تبنٍ للكثير من الأخلاقيات تحت شعار (المواطنة العالمية) و(الهُوية العالمية)، لا يودي بالقيم والمبادئ وحسب، بل أيضا يقدِّم نماذج مجتمعية مقولبة ضمن قوالب جاهزة تصنعها الأيديولوجيات التي تهدف إلى فصل المجتمعات عن ماضيها الحضاري وقيمها الأصيلة، التي تُعد أساسا راسخا لا يمكن لأي مجتمع يريد الصمود أمام تلك المتغيرات كلها أن يتخلى عنها لأنها الضمانة الوحيدة التي تضمن له الحفاظ على هُويته ومبادئه الأصيلة.
ولعل الوعي بمفهوم المواطنة العالمية باعتبارها برنامجا تنمويا مشتركا بين المجتمعات الإنسانية، سيساعد على الحد من ذلك الخلط والاندفاع في تبني تلك الأخلاقيات بقالبها الإنساني الخارجي، والذي يمكن أن يكون خادعا للكثير ممن يصعب عليه التفريق بين القضايا الإنسانية المهمة التي علينا جميعا الإيمان بأهميتها وتبنيها، وبين تلك التي تضمر بين جنباتها هدما حقيقيا للقيم والأخلاق والمبادئ والتطرُّف والتعدي على الآخرين والإساءة إليهم.
إن المواطنة العالمية ترتبط بتلك المتغيرات التي تحدث في المجتمعات على مستوى العالم، من حيث تركيزها على قيم الحرية والعدالة والمساواة والتسامح والتنمية، وهي بذلك تقدم نموذجا مهما في التكوين الإنساني وتوعيته بالقضايا الإنسانية التي لا تؤثر على مجتمعه وحسب بل أيضا على أنماط حياته وقدرته على المساهمة الفاعلة في تنمية مجتمعه، والمشاركة في فعل المواطنة الإيجابية.
ولهذا فإن المواطنة العالمية يُنظر إليها باعتبارها الانتماء إلى المجتمع الأوسع، والشعور بتلك القواسم المشتركة بين الشعوب بجوهرها الإنساني من ناحية، وقدرتها على التطوير من ناحية ثانية، وهي بذلك تنبني على الهُوية الإنسانية والمجتمعية التي تُميِّز كل مجتمع عن الآخر، إذ يقوم العالم على التنوُّع والتعدُّد في الهُويات والثقافات والمرجعيات الاجتماعية والدينية وغيرها، وبذلك فإن هذه المواطنة تدعو إلى الانسجام والموضوعية والتسامح و الحوار وغير ذلك مما يرسِّخ القيم الإنسانية الأصيلة.
إن المبادئ التي تعززها المواطنة العالمية لا تدعم تبني الأخلاقيات التي تهدم قيم المجتمعات، ولا تلك التي تقوم على العنف بشتى أشكاله، فمع التحولات التي يعاني منها العالم على المستويات الاقتصادية والتقنيات المتسارعة، ظهرت مجموعة من الأجندات الأيديولوجية سواء تلك الجديدة البارزة على السطح والتي كرَّستها بعض الأنظمة العلمانية تحت شعار المساواة الإنسانية، أو تلك التي تشتعل تحت الرماد وتستعد لضربات موجعة متبنية في ذلك شعارات وقيم ومبادئ كرستها في عقول مريديها باعتبارها حق وهي في حقيقتها باطل وجهل.
لذا فإن المجتمعات عانت وما زالت تعاني من تلك الأيديولوجيات المبطَّنة، وهي معاناة لا تخُص العالم العربي وحده، فما شهدناه في الآونة الأخيرة خلال احتفالات افتتاح دورة الألعاب الأولمبية للعام 2024 في العاصمة الفرنسية باريس يعد نموذجا واضحا لأزمة الهُوية الثقافية والدينية التي أثارت حفيظة المجتمعات الغربية لما قدمته من مشاهد وفقرات تمس قيم الأديان والمجتمع والأخلاق، والتي دفعت إلى الدعوة للتمسك بمبادئ المجتمع الإنساني وأصوله باعتبارها قاعدة أساسية لتطوُّر المجتمعات.
يحدثنا تقرير (المواطنة العالمية لعام 2024)، الصادر عن مؤسسة الشركاء العالميين (CS) ، عن تلك الأدوار التي يمكن أن يقدمها الأفراد في المجتمعات العالمية فكرا ومشاركة وتمكينا، وتلك الأدوات التي يمكن أن تُقاس بها المواطنة العالمية باعتبارها محفزا للمواطنة الإيجابية للأفراد في مجتمعاتهم نفسها؛ فمن يؤمن بالمشاركة والحوار والتعاون فإنه ينطلق من إيمانه الراسخ بأهميتها في بناء مجتمعه، وقدرتها على تأصيل المبادئ الإنسانية.
وعلى الرغم من أن التقرير يركِّز على الانتخابات التي ينتظرها العالم في عام 2024، وما يمكن أن يقدِّمه المواطنون على مستوى العالم من مشاركات فاعلة في التحوُّلات المُنتظرة التي ستعقب الانتخابات الرئاسية المتعددة في العديد من دول العالم لهذا العام، إلاَّ أنه أيضا قدَّم مجموعة من التصورات والتحديات التي تواجه العالم على مستوى (السلامة والأمن، والفرص الاقتصادية، وجودة الحياة، والتنقل العالمي، والحرية المالية)، والتي تُعد تحديات لا يمكن تجاوزها سوى بالمشاركة والانسجام وتفاعل المجتمعات وتقديم كل ما يمكن أن يُسهِم في تحقيق آفاق أفضل للمجتمع والعالم من خلال مواطنة قائمة على التشارك والتعاون والتفاعل الإيجابي.
إن المسؤولية المرتبطة بالمواطنة تحمل شعورا بالالتزام والثقة، التي تمنحها المصداقية والتعاون والتكامل بين الحكومة والشعب، ولهذا فإن المسؤولية هنا لا تتعلَّق بالمصالح الفردية بقدر تعلقها بالمصالح المشتركة أو بالمعنى الأعم المصالح الوطنية الأكثر شمولا واستدامة، فهي مسؤولية تقوم على الوثوق والقدرة على المشاركة والدعم والتعزيز لكل ما يقوي الروابط الإنسانية ويُسهم في تمكين البنية الأساسية للمجتمعات واستدامتها، وهذه الاستدامة ليست مادية بقدر ما هي أخلاقية ثقافية.
لذا فإن المواطنة العالمية لا تعني التخلي عن مبادئنا وقيمنا وأصالتنا، بل تنطلق من ترسيخ تلك القيم ودعمها باعتبارها إنسانية قادرة على العبور بين الأمم الأخرى، وفقا لما نقدمه لها من مكامن إنسانية ذات أبعاد قائمة على المحبة والتعاون والحوار البنَّاء، فالمواطنة باعتبارها فعل اجتماعي تنطلق من الإنسان نفسه، وتعتمد على التضامن والتمكين والثقة بين الحكومات والشعوب، وهي ثقة تؤِّصل مشروعية المشاركة الفاعلة والتعاون من أجل المصلحة العامة.
إن المواطنة ترتبط بهُوية المجتمع وتنطلق وفقا لمبادئها الأساسية نحو العالمية، من أجل بناء مجتمع إنساني قادر على مواجهة التحديات والصمود أمام المتغيرات الطارئة التي تهدف إلى هدم تلك الهُوية أو تشويهها، فالمواطن الإيجابي يتميَّز بكفاءة اجتماعية عالية، وقدرة على الاندماج مع مجتمعه والتفاعل معه والمشاركة في تنميته وتحقيق أهدافه، ولهذا فإننا جميعا مسؤولون عن مساهمتنا في تحقيق رفاه مجتمعنا من خلال ما يمكن أن نقدِّمه وما نشارك به من أعمال وابتكار وإبداع وتنمية.
لقد شهدت السنوات الأخيرة تحولاَّت مختلفة على مستوى العالم، أثَّرت وما زالت تُحدث تغييرات في جوهر المجتمعات وأصولها الحضارية والفكرية بل والإنسانية، وهي تحوُّلات تقدِّم نفسها باعتبارها ظاهرة (عالمية) بدأت في الانتشار مع التطورات التقنية والانفتاح العالمي، الأمر الذي يستدعي منا الوعي بماهية تلك التحوُّلات والدعوات الإيديولوجية التي تنضوي تحت شعارات المواطنة وهي منها براء.
إن علينا جميعا المشاركة الفاعلة في التصدي لتلك الأفكار والشعارات التي تهدم المجتمعات، وتسهم في تشويه مفاهيم الإنسانية التي جُبلنا عليها. إنه واجب تقتضيه المواطنة الإيجابية، ويحتمه انتماؤنا لهذه الأرض الطيبة التي لا تُنتج سوى الطيب.
عائشة الدرمكي – جردية عمان