الدول وهي تنهار

من يقرأ في التاريخ بعناية وتأمل، سيجد دولاً وممالك وسلاطين كانت تظهر في فترة ما وتستمر إلى حين من الدهر، يطول عند البعض ويقصر عند البعض الآخر، ثم تبدأ رحلة الانهيار التدريجي. منها ما تكون نهايتها سريعة وأخرى تتهاوى ببطء، لكن العبرة أنها تتهاوى وتختفي، لتظهر أخرى في صورة جديدة، وهكذا الأيام دول.

لكن ما يثير الانتباه هو تكرار سبب أو أسباب انهيارات الدول والممالك والسلاطين. ولا أتحدث ها هنا عن تاريخنا الإسلامي فحسب، بل تاريخ الأمم الأخرى أيضاً، باعتبار بشرية التجارب والأحداث، وما يحدث في الشرق لا يختلف عنه في الغرب أو الشمال والجنوب.

لقد أثبتت التجارب البشرية في الحكم وإدارة الدول والممالك والسلاطين، أن تهاوي أو انهيار الدول والممالك إنما السبب الرئيسي يعود إلى فصول متعددة من الصراع، الذي ينشأ في مرحلة معينة بين الخير والشر في الدولة، والذي يكون عادة على صور متعددة من الخيانات والمؤامرات والدسائس التي تجري في الأوساط الحاكمة ومن يدور في فلكهم، بغض النظر عن حجم ومستوى كل جهة حاكمة ومستوى من تحكمهم.

أي لا فرق بين ما يحدث في قبائل وتجمعات بدوية في صحراء ما مثلاً، وبين ممالك ودول في مدن متحضرة راقية، وصولاً إلى الإمبراطوريات الكبيرة. الفرق قد يكون في شكل وحجم الصراعات، ونوعية الخيانات والمؤامرات. لكن الخيانة تبقى هي نفسها، والمؤامرة كذلك، فلا فرق بينها في قبيلة أو دولة أو حتى إمبراطورية مترامية الأطراف، فإن سوء وخبث بعض النفوس البشرية يتكرر في كل زمان وكل مكان، وبسببه يستمر صراع الحق والباطل، وتدافع الخير والشر.

صراعات بني آدم لا تتوقف

الصراعات منذ ابني آدم، قابيل وهابيل، ما زالت إلى اليوم، بل وإلى الغد. تتطور وتتفاقم وتشتد حيناً بعد آخر في أي تجمع بشري، من أبسط التجمعات والتكوينات إلى أعقدها. وحين البحث عن أسبابها ودوافعها ستجد أنها غالباً تدور حول محور واحد لا ثاني له هو المال بجميع أشكاله، وما ينتج عن السيطرة على المال من حصول صلاحيات ونفوذ وتبعات، وما يعني ذلك في عالم البشر، أو عالم الإدارة والقيادة.

ما انتشرت الحروب والصراعات بين البشر، سواء على شكل أفراد أو جماعات وأحزاب، وصولاً إلى الدول والممالك، إلا نتيجة مرض الطمع فيما عند الغير، أو حب تملك الآخرين، أو أنانية عميقة لا تحب الخير للغير. ولأن البشر ما زال كثير منهم ينشأ على مثل تلك الأمراض، لا تتعظ ولا تعتبر من تجارب الأولين والسابقين، تجد الأزمات والمشكلات والحروب والصراعات مستمرة إلى ما شاء الله لها أن تستمر.

الترف سبب آخر مهلك

أبرز ما ينتج عن الحصول على المال بوفرة بعد صراعات وحروب، هو الانغماس التدريجي لأصحاب القرار والسيطرة في عالم من الترف لا مثيل له، ثم يتبعهم بعد قليل من الدهر في ذلك النهج، غالبية من يسير في فلكهم، ثم بالضرورة بعد ذلك ستظهر طبقة مترفين في المجتمع، وستكون الثغرة أو الشرخ الذي سيبدأ مفعوله في كيان الدولة، أو المملكة، أو السلطنة، أو غيرها من كيانات سياسية.

المترفون في كل أمة – كما جاء في ظلال القرآن لسيد قطب رحمه الله – هم «طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة، حتى تترهل نفوسهم وتأسن، وترتع في الفسق والمجانة، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلغو في الأعراض والحرمات».

الترف يؤدي إلى الإسراف، وهو مرض مؤذ قاتل، بل هو عامل أساسي في دخول البلاد أجواء الفقر، الذي إن استوطن بلداً طارت عنه القيم، وحلت الفواحش، ما ظهر منها وما بطن. المترفون فئة تتولى إهلاك الدولة – دون قصد بالطبع – لكن سلوكياتهم وأفعالهم هي السبب.

الظلم قرين الترف

إن ظهر ترفٌ وإسرافٌ في أجهزة كيان ما، فهذا يعني استئثار فئة قليلة بغالبية الامتيازات على حساب فئات عديدة أخرى في المجتمع. هذا الاستئثار دافع أكيد إلى نشوء مرض آخر في ذلك الكيان هو الحقد أو الكراهية في نفوس فئات محرومة تجد أن لها الحق في بعض ما عليه الفئة المترفة المسيطرة، والمستأثرة بالخيرات وما شابه. ومن هنا يبدأ الصراع بشكل وآخر، ويعني هذا أن الشرخ يبدأ في الاتساع رويداً رويداً، ويظهر التجاذب والتدافع بين المترفين وطبقات المحرومين أو الطامعين، ليتخذ المترفون، بحكم الأمر الواقع، وضعية الدفاع عن وضعهم المترف بالظلم، الذي يكون عادة مصاحباً أو قريناً للترف. فأينما وجدت مترفين، وجدت ظلماً يصدر عنهم بصورة وأخرى. ظهور وانتشار الظلم ينذر بانهيار سريع للكيان، مهما بدا للناظر قوة وصلابة هذا الكيان.

إن انتشار الفساد والظلم والعدوان في أي كيان بشري قائم، يدفع بعد حين من الدهر، طال أم قصر، إلى أن تصل فئة المترفين – باعتبار الترابط الوثيق بين المال والمناصب – إلى مراكز القرار والتحكم في شؤون البلاد والعباد، لتتولى تلك الفئة بعد ذلك وهم في (سكرتهم يعمهون) السير في المشهد الأخير للبلاد، مشهد الهلاك، والانهيار والزوال، كي تجري بالتالي عليهم السنة الإلهية في هلاك أو زوال الأمم.

في القرآن تجد الكثير من القصص عن الأمم والكيانات التي أزالها الله بسبب دخولها مع الغير في صراعات باطلة لأجل النفوذ والسيطرة وحب المال والامتلاك، ومن ثم انغماسها في ترف عميق استدعى بحكم النزعة البشرية، ارتكابها للكثير من الظلم في سبيل الحفاظ على مكتسباتها. وما تلك القصص التي أوردها القرآن إلا للعبرة والعظة، ولكن كم هم الذين يعتبرون ويتعظون؟ ولأنه لا يتعظ الكثيرون من ذلك، تجد مسلسل ظهور الدول والممالك ثم انهيارها مستمراً، والأسباب هي هي لا تتغير ولا تتبدل، كما هي سنن الله في الأرض لا تتغير ولا تتبدل. العدل يحفظ الكيان السياسي، والظلم ينهيه ويدفعه للانهيار. وقد قيل بأن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون).

د. عبدالله العمادي – الشرق القطرية

Exit mobile version