آراء

تأملات في أسرار النفس

اهدئي يا نفسي واستغرقي في تأملاتك التي تشبه حركة الغوص العميق إلى قاع الماء للقبض على حبة رمل، أو التحديق في الجزئيات المتناهية الصغر، فالتأمل هو الانسحاب من العالم الخارجي المليء بالتناقضات والضجة، إلى عالم الذات من أجل الإنصات العميق لحركة الوجود داخل النفس،

وهو ارتحال مع فكرة، أو صورة، أو مشهد، لمعرفة ماهيته وما يحيط به وما يكونه، وهو التواشج الحميم مع النفس وحديثها وبثها. فالتأمل يستند إلى عناصر المعرفة الكلية التي تكوِّن شخصية المتأمل وبناءه الداخلي، وهو أحد أهم تجسدات الأنشطة الخلاقة للدماغ البشري، إذ به تنبني العلاقة الأكثر متانة بالمعرفة والواقع والذات والإبداع، إلا أن التأمل كفعل،

له اشتراطات قد لا تتوافر في محيط الكل، إذ إن من شروطه، قدرة المتأمل على الخلود إلى النفس في عزلة مكانية وزمانية ونفسية، إنه القدرة على أن تجلس وحيداً تماماً، على مدى ساعات أو أيام، دون أن تستشعر الوحشة، وهو القدرة على معايشة الداخل، والأنس بالنفس لاكتشاف عوالمها وكينونتها، وتتوحد معها وتتألق في حضورها، إنك بذلك تنقّي شوائبها، وما علق بها من طفيليات الواقع، كي تنمو في عافيتها، رخية، مكتنزة، عميقة، ومتينة البنيان. في التأمل ينصت العقل والنفس والكيان كله إلى حركة الوجود في تبدلاته وتغيراته، وإدراك أسراره العميقة التي لا تُرى في الصخب وضجة اليومي، والتأمل ليس هو العزلة النافرة، وليس الصد وهجر الحياة ومسراتها والناس ومحبتها، بل هو فعل التلذذ بالحياة ومسراتها وبالناس والمحبة، في التأمل نرى بالبصيرة، ونسمع بالصمت، وندرك بالحدوس، ونهجس بالروح. ونحب بأعمق خلايانا وأصفى مشاعرنا، في النفس يتم صنع شخوصنا وتحديد معالمها وماهيتها،

فإذا ما وضعناها في زاوية الغياب لن نعرف كينونتنا وشخوصنا في عمقها. وما نعتقد أننا نعرفه عن أنفسنا للدلالة على كليتنا الإنسانية في فرديتها، محض التباس، وهذا الالتباس يوقعنا في التضاد، وفي ما نسميه الازدواجية بمفهوم عام، إن تجسداتنا الخارجية لا تشي دائماً بدواخلنا، إذ تطغى ضجة المقولات التي تبرمجنا منذ الطفولة وفق ما تريد، وتصيرنا وفق ما لا نريد، على الأغلب في أعمق أرواحنا ورغباتنا وأحلامنا، بل في ما تؤهله لنا الطبيعة كي نكون، في مشاهد الحياة اليومية الكثير من الغرابة بالنسبة إلى إنسان متأمل، فبعض الناس قد يخافون من التوحد مع النفس في لحظة التأمل..!.

حمدة خميس – جريدة الاتحاد

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى