آراء

ترويض العبد!

فى كتاب «مذكرات عبد أمريكي»، الذي يحكي فيه الوزير الأمريكى «فريدريك دوجلاس» قصته مع العبودية، وترجمه المبدع الكبير الأستاذ إبراهيم عبدالمجيد، تجد سردية عميقة للكيفية التى يروض بها السيد عبيده ليعملوا داخل مزارعه ليل نهار، يأخذ منهم كل شىء، ولا يعطيهم إلا القسوة والعسف. أدوات عديدة يستخدمها السيد فى ترويض عبيده، وهي تتنوع ما بين الكرباج، والحرمان من الطعام، والتحكم فى الإجازات، بالإضافة إلى أدوات التغييب عن الواقع، والتجهيل والابتعاد بالعبد عن أى نسمة من نسمات التعليم أو الوعى، وغير ذلك.

المذكرات تحكى مدى البشاعة التى تعرض له الأمريكان الأفارقة الذين ولدوا فى أحضان العبودية، ويفضح الجانب العنصرى المقيت فى الثقافة الأمريكية، والتى لا تكتفى بحرمان الأفريقى من جميع حقوقه كإنسان، بل كانت تحرمه أيضاً من حقه فى الدخول فى رحمة الله، والتعبد لخالقه، وتنكر عليه أن يكون قريباً من الله تعالى أكثر من البيض، الذين لا يراعون حقوق غيرهم من البشر.

وكما تنتهى مشاهد القسوة إلى حروب مزلزلة انتهى مشهد العبودية فى الولايات المتحدة الأمريكية إلى حرب ما بين ولايات الشمال والجنوب، كان من ضمن نتائجها إلغاء نظام العبودية، ورغم ذلك ما زال صدى العنصرية يتردد فى الكثير من أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية حتى اللحظة، والحوادث التى يمكن أن تشتم فيها رائحة التمييز داخل هذا البلد لا تتوقف، ولا يخفى عليك أيضاً حالة التمييز التى تسيطر على عقل صانع القرار الأمريكى بين المواطن الغربى (الأمريكى أو الأوروبى) والمواطن الخارجى، من العرب وغيرهم. فالحق مكفول لأبناء واقعه، أما غيرهم فلا تجد أدنى اهتمام بإيقاف عمليات السحق الممنهج الموجهة إليهم. وليس ما يحدث لإخواننا فى فلسطين منا ببعيد. لقد أحس مواطنو الغرب بالقمع الذى يمارس ضد الفلسطينيين وظلم أنظمتهم السياسية لهذا الشعب، إلى حد التظاهر دعماً لهم، وتنديداً بإسرائيل وآلة قمعها، التى تصب حممها على المدنيين من أهل غزة والضفة.

سيرة الترويض القائم على السحق لا بد أن تنتهى بصراعات عنيفة. فالقهر حين يطول زمنه تولد من رحمه لحظة استفاقة ينتفض فيها العبد ضد قاهريه، وهذه اللحظة لها سماتها الخاصة.. أولاها فراغ الصبر، فحين يفرغ صبر الإنسان يفيض به الكيل، ويبدأ فى التحرك ضد من يقهره، وثانيها كسر حاجز الخوف، فذلك المرتعد الذى كان يخشى خيال سيده بالأمس، يعيش لحظة شجاعة غير مسبوقة، وينطلق سهم دفاعه عن إنسانيته من منزعه بلا عودة، وثالثها التصميم على تغيير الواقع، فوضع العبد الثائر بعد التحرك غيره قبل أن يفعل، إنه يقرر فى لحظة التحرك أن يضع خطاً فاصلاً بين مرحلتين: مرحلة العبودية ومرحلة التحرير.

الترويض قد يؤدى إلى السيطرة على العبد زمناً، لكن لا أمان للسيد من لحظة يثور فيها العبد على نفسه وعلى سيده.

د. محمود خليل – صحيفة الوطن

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى