آراء

أنشودة الربيع الآخر

يحكى أنه قبل آلاف السنين خرج المصريون القدامي لمشاهدة تعامد الشمس على قمم أهرامات الجيزة، وهو اليوم الذي يتساوى فيه الليل والنهار معلنا عن بدء أنشودة الربيع، حيث ترتدي الأرض ثوبها المبهج فتتفتح الزهور وتخضر الحقول وتنتصر السماء لزرقتها، واحترامًا لكونه سيد الفصول، تمنح فيه العطلة السنوية، حتى تتاح الفرص للاحتفال فيستيقظ المصريون منذ بزوغ شمس فجر هذا اليوم ويقومون بتلوين البيض وزخرفته بالرسوم ووضعه في سلال الخوص وسعف النخيل ويعلقونه في الأشجار حتى تحل عليه البركة.

ويحضرون الأسماك التى كانت من أهم العناصر الغذائية عند المصريين القدامى والبصل ويذهبوا في رحلة نيلية عائلية للاستمتاع بحيوية الطبيعة وبهائها، ويقال إن ابنة أحد الملوك القدامى كانت تعاني من مرض عضال وفشل الأطباء في علاجها إلى أن قام أحدهم بتقديم عصير البصل إليها وتعافت بالفعل فقرر الملك الاحتفال بعيد الربيع أو ما سمى بـ “شم النسيم” على شرف البصل! ومن هنا تعانق الفسيخ الذي انطلق من مدينة “إسنا” في صعيد مصر والبصل في بوتقة واحدة احتفالا بهذا اليوم.

وظل للربيع بهجته حتى تغنى به الجميع كبارًا وصغارًا، وغنت السندريلا سعاد حسني من كلمات العبقري صلاح جاهين وتلحين كمال الطويل: “الدنيا ربيع والجو بديع قفلي على كل المواضيع… الشجر الناشف بقى ورور والطير بقى لعبي ومتهور… الورد مفتح شوفوا شوفوا بيرقص ويداري كسوفه… قالك وصفة بلدية للصحة وطولة العمر، خد شمس وهوا على ميه بلا دوا بلا عيا بلا مر”.

بينما غنى المطرب فريد الأطرش من كلمات مأمون الشناوي: “أدي الربيع عاد من تاني، والبدر هلت أنواره… كان النسيم غنوة، النيل يغنيها وميته الحلوة تفضل تعيد فيها.. وموجه الهادي كان عوده، ونور البدر أوتاره.. يلاغي الورد وخدوده، يناجي الليل وأسراره”.

لكن الست أم كلثوم غنت للربيع من كلمات أحمد رامي وتلحين رياض السنباطي “غنى الربيع بلسان الطير رد النسيم بين الأغصان.. والفجر قال يا صباح الخير يا صحبة الورد النعسان.. فرح بروحه الكون نادى وغنى.. وكل لحن بلون مغنى ومعنى”.

واللافت للنظر الآن أن أسطورة الربيع اختلفت بفعل عوامل الطبيعة البشرية والكونية، ورغم انعقاد الكثير من القمم العالمية بشأن “تغير المناخ والاحتباس الحراري”، إلا أن الواقع لم يتلق أية تغيرات، وظلت الدول الكبرى تنتج صناعات ثقيلة وتطلق انبعاثاتها وعوادمها على الكون بلا محاسبة فعلية، ولكنها فقط تدفع بعض المنح للدول الصغرى حتى يكتمل الصمت المدقع وتحولت الأرض إلى “صوبة” تحبس الحرارة بين طياتها وتغيرت طبيعة الفصول، ونحن الآن على مشارف استقبال الربيع لم يعد موكبه محملا بالنسيم والبهجة بل فاجأتنا الطبيعة باعتراضها من خلال رياح محملة بالأتربة فتحول من اللون الأخضر إلى الأصفر، فضلا عن الأمطار غير المبررة وكأن السماء تبكي حال الكوكب البائس، وها نحن الآن أمام ربيع آخر لم يتغن به أحد من قبل ولم تصفه لنا كتب الجغرافيا.

وما زاد الطين بلة هو استخدام مصطلح “الربيع العربي” على الثورات والتغيرات التي طالت الكثير من الدول العربية وتركت خلفها دمار شامل وبدلا من تفتح زهور الازدهار الاقتصادي والانتعاش السياسي أفرزت إرهابًا بغيضًا، ومن هنا تحولت كلمة “ربيع” الى كلمة سيئة السمعة بعد أن تم طمس ملامحه على جميع الأصعدة.

فضلا عن “ربيع العمر” هذا التعبير الذي يطلق على الأشخاص المتقاعدين أو من أحيلوا إلى المعاش عند سن الستين وهو ما يدعو للغرابة أيضًا، وكأننا أصبنا بتشويش فكري لم نعد نعرف كيف نصنف الربيع هل نمضي على خطى السندريلا والأطرش وكوكب الشرق أم أن كل شيء تغير وما تبقى مجرد أطلال مفعمة بالأتربة وحبوب اللقاح المثيرة للحساسية الصدرية والجلدية وخلافه.. فلماذا نتغنى بأنشودة الربيع؟

د. هبة عبدالعزيز – بوابة الأهرام

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى