آراء

الاستراتيجية الإسرائيلية في التفاوض

لن يفضى التفاوض مع إسرائيل إلى أى نتيجة تذكر، فيما يخص وقف الإبادة الجماعية فى غزة، كون ما يقوم به جيشها يمثل انعكاساً واضحاً لعقيدة دينية وردت فى أسفار التوراة: «وأمَّا مُدُنُ هؤلاءِ الأُمَمِ الّتى يُعطيها لكُمُ الرّبُّ إلهُكُم مُلْكا، فلا تُبقوا أحداً مِنها حياً (17) بل تُحَلِّلونَ إبادَتَهُم.. سفر التـثنية 20»، وتحولت إلى أيديولوجيا سياسية وحالة إجماع شعبى لمجتمع متطرف يشكل خطراً حقيقياً على السلم العالمى وليس على الشرق الأوسط فحسب.

نحن أمام مشهد مفزع وحرب دينية لا حدود للعنف فيها، فى ظل غياب قوى الردع التى تستطيع إيقافها حال توافر الإرادة، مع غياب كامل للمؤسسات الأممية وانعدام دورها بعد فشلها تسع مرات فى استصدار قرار ملزم بوقف الإبادة الجارية منذ خمسة شهور ولا تلوح فى الأفق أى بادرة لتوقفها.

جولات ومفاوضات فى عواصم عربية وأوروبية لم تفلح فى زحزحة الموقف الإسرائيلى المستند للدعم الأمريكى قيد أنملة، وبقى الإصرار على إبادة ما تبقى من غزة وشن عملية عسكرية فى رفح موقفاً إسرائيلياً لا يحسب حساباً حتى للمعارضة الأمريكية للعملية.

التفاوض بصفة عامة وبحسب المتعارف عليه فى الأوساط السياسية الدولية «هو عملية تستهدف الوصول إلى حلول مقبولة أو اتفاق يسهم فى تحقيق مصلحة طرفين أو أكثر يربطهم موقف مشترك، والتفاوض أو المفاوضات فى العلاقات الدولية هى عملية غايتها الوصول إلى تسوية سياسية».

وحدها دولة الاحتلال العنصرية لا تعترف بهذا المفهوم، وتعتبر أى عملية تفاوض مسألة كسب وقت لتحقيق أكبر قدر من المصالح الإسرائيلية، حتى صارت طريقتهم فى التفاوض، والتى تتسم بالمراوغة وعدم الوضوح، تدرس فى كل أنحاء العالم.

تتعمد إسرائيل خلق مسارات تفاوض متوازية لا تلتقى أبداً مع تكرار طرح تصورات بحلول غير عقلانية تغفل كل حقوق الطرف الآخر، وتعاود التراجع عن جزء أو كل ما سبق وقبلت به، بخلاف اختلاق العراقيل وصناعة تفاصيل، ما يؤدى إلى أن تقود المفاوضات إلى مفاوضات أخرى تبدأ كل مرة من حيث بدأت، وليس أدل على ذلك من مفاوضات السلام المصرية الإسرائيلية فى كامب ديفيد وما تبعها فى مفاوضات طابا.

لا تملك إسرائيل خطة حقيقية من أجل إقرار السلام مع جاراتها على أساس عادل، يراعى حقوق الفلسطينيين التاريخية، كما أنها لا تنوى الاعتراف بدولة عربية إلى جوارها، ولن تقدم أى تنازلات فى هذا الصدد بعد أن نجحت فى تغييب القضية عن دوائر الوعى العربى والعالمى طوال سنوات.

كل ما تريده من المفاوضات المزيد من الوقت للإجهاز على أكبر عدد من سكان قطاع غزة، وتحسين موقفها خلال التفاوض والمبنى على أساس القوة وفرض إرادتها على كل الأطراف الأخرى.

لقد اختفت من الساحة تصورات المبادرة العربية «الأرض مقابل السلام» لصالح التصور الإسرائيلى «السلام مقابل السلام»، ولم تكتفِ إسرائيل بذلك فى إطار سعيها لاستغلال المفاوضات نحو ما يمكن وصفه بالهدف الاستراتيجى القديم الجديد «التهجير مقابل السلام»، وسط تسارع عمليات التطبيع العربى الإسرائيلى من قبل معظم الدول العربية دون مقابل يتعلق بقضية العرب المحورية والتى لم تعد كذلك على أرض الواقع.

إلى وقت قريب كانت إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة تسعيان إلى انتزاع كل الأوراق من يد الفلسطينيين، وعلى رأسها المساندة العربية، وهو ما نجحت بالفعل فى تحقيقه وإلى حد كبير، إلا أن ما لم تحسب له حساباً يتمثل فى تغير المواقف الدولية، والضغوط الشعبية على المستوى العالمى الذى من شأنه أن يغير مواقف الحكومات، ويؤثر بالقطع على مسار المفاوضات مع ضغوط هذه الدول نحو الاعتراف بدولة فلسطينية كاملة السيادة.

التفاوض مع إسرائيل لن يجدى نفعاً ما لم ترافقه استراتيجية عربية واضحة تستفيد من متغيرات عالمية باتت واضحة التوجه إلى جانب الحقوق العربية، مع الوضع فى الاعتبار أن دولة الاحتلال لن تمرر ما يخالف عقيدتها الدينية والسياسية ما لم تكن الضغوط الدولية مصحوبة بمواقف عربية أكثر تشدداً فى ربط «التطبيع» بتقدم مفاوضات الحل النهائى وليس بوقف «الإبادة» الجارية فى قطاع غزة.

صلاح البلك – الوطن نيوز

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى