أبرز العناوينتحقيقات وتقارير

شركات النفط الكبرى.. هل تتخلى عن الاستثمار ؟

وائل صوان الرئيس التنفيذي لشركة شل لا يخطط للتخلي عن عالم إنتاج النفط لبلدان الخليج الأوفر حظا في المستقبل القريب. حيث يقول: شل تأمل في المنافسة مع الخليج دون هوادة. لكنه أيضا يقر بعدم وجود فرصة لأي من الشركات المملوكة للمستثمرين في أن تكون آخر الصامدين. حتى اليوم تبدو هذه الشركات في وضع جيد. ففي أواخر العشرية الثانية أنفقت صناعة النفط أموالا أقل بكثير من المعتاد لضمان الإنتاج في المستقبل مع تذمر رؤساء الشركات من العنت الذي لحقهم بسبب الإجراءات التنظيمية لحماية المناخ وحركة الناشطين المعادية للنفط والمخاوف البيئية والاجتماعية والحوكمية. وعندما زادت الصناعة من خفض الإنفاق الرأسمالي أثناء تراجع الطلب إبان الجائحة كان دانييل يرجين نائب رئيس مجلس إدارة ستاندرد آند بورز أحد أولئك الذين عبّروا عن قلقهم علنا من ظهور حقبة جديدة “تتسم بعدم كفاية الاستثمار الاستباقي” تنشأ على الافتراض الخاطئ “بوجود بدائل كافية للنفط والغاز في الوقت الحاضر”. في الحقيقة لدى المستثمرين سبب أكثر بساطة للامتناع عن استثمار نقودهم في سنوات ما قبل الجائحة. إنه بؤس العائدات. فصناعة النفط والغاز كانت أسوأ القطاعات أداء في مؤشر ستاندرد آند بورز 500 المعياري الأمريكي في الفترة من 2010 إلى 2020. يعود ذلك في جزء كبير منه إلى ازدهار النفط الصخري الذي كان يبتلع الأموال. ومنذ ذلك التاريخ عززت الشركات المملوكة للمستثمرين الكفاءة وقلصت التكاليف وتخلصت من الأصول.

قدرت ناتاشا كانيفا المسؤولة ببنك جيه بي مورجان أن كل مليون دولار أنفق على الاستثمار الرأسمالي في الشق الأعلى لصناعة النفط بالولايات المتحدة عام 2023 أنتج ضعف كمية النفط التي حققها نفس المبلغ في عام 2014. انتبه المستثمرون لهذا الاستخدام الأكثر كفاءة لرأس المال وأيضا للأرباح الوفيرة التي أعقبت عودة الطلب عندما انتهت الإغلاقات وبدأت الحرب الروسية الأوكرانية. وارتفع الاستثمار في الشق الأعلى من الصناعة النفطية إلى 500 بليون دولار في عام 2022 متراجعا من 700 بليون دولار وهي ذروة الاستثمار التي بلغها في عام 2014. المخاوف من نقص الإمدادات بسبب عدم كفاية الاستثمار تجعل من المعقول بقدر أكبر التركيز على شركات النفط الوطنية المرتفعة التكلفة في الأجل القصير. مع ذلك وجد مسح أجرته مؤخرا شركة بي سي جي الاستشارية أن 84% من المستثمرين على نطاق العالم اعتقدوا بأن على شركات النفط والغاز إثبات تحقيق نمو مربح من الاستثمارات في الموارد منخفضة الكربون بحلول عام 2025. وذكر أكثر من نصف المستثمرين المقيمين في أوروبا أنهم شعروا بضغوطات للتخلص من الاستثمار في موارد الوقود الأحفوري. الإحساس بأن هذا التردد سيتعزز قلص المدى الزمني الذي تتصوره الشركات للاستثمارات في نشاطها الأساسي. فهي لا تستثمر في مشروعات تمتد إلى 10 سنوات كما يقول إدوارد مورس الذي كان يعمل سابقا في بنك سيتي. بل بدلا عن ذلك ترغب في مشروعات “الدورة القصيرة” بأخفِّ أثر كربوني وأقل تكلفة للبرميل. المثال الكبير لذلك، المشروعُ الضخم لشركة إكسون موبيل مؤخرا في غيانا والذي انتقل من مرحلة الاكتشاف في عمق البحر إلى الإنتاج خلال عامين فقط. وكل أحد يعلم أن مثل هذه الثمرة “الدَّانية” نادرة.

تعزيز المبررات القديمة

في قطاع سيلزمه أن يتقلص هنالك الكثير الذي يمكن قوله حول الخروج منه. وهذه بالتأكيد النظرة السائدة وسط شركات النفط الوطنية. في الصين المهووسة بالكهرباء تقول الشركة الوطنية الصينية للنفط البحري: إن موارد الطاقة منخفضة الكربون ستشكل أكثر من نصف إجمالي إنتاجها بحلول عام 2050. أيضا تتحول شركة إيكوبترول الكولومبية وبي تي تي التايلندية إلى الموارد المتجددة. وحاولت بعض شركات النفط الأوروبية القيام بتحولات مماثلة. لسوء الحظ، كما تشير دراسة أجرتها مجموعة أكسفورد للتمويل المستدام، تدفع شركات تطوير المشروعات وخدمات الكهرباء التي تهيمن على قطاع الموارد المتجددة مبالغ أقل لرأسمالها مقارنة بشركات النفط وبالتالي تكتفي بعائدات أقل. وشركات النفط الأوروبية لأسباب من بينها تحولها نحو الموارد المتجددة يتم تداول أسهمها بخصم كبير مقابل نظيراتها الأمريكية. تراجعت كل من بي بي وشل عن تبني الكهرباء الخضراء. فشركة بي بي تضخ في موارد الوقود الأحفوري استثمارات لم ترد أية إشارة لها في توقعاتها قبل سنوات قليلة. وسيكون إنتاجها من المواد الهيدروكربونية في عام 2030 أدنى بحوالي 25% فقط عن مستواه في عام 2019 وليس 40% كما كانت تروِّج لذلك في وقت ما. وكان الرئيس التنفيذي لشركة شل وائل صوان قد أبلغ الحضور في يوم استثماري العام الماضي أن شل “لا تتميز (عن الشركات الأخرى) في قطاع الموارد المتجددة.” بل هو بدلا عن ذلك يموضع الشركة لكي تكون “لاعبا متميزا في الطاقة الجزيئية اليوم وفي المستقبل”.

(الجزيئية هنا: مصطلح خاص بصناعة النفط يمكن أن يعني كلا من أنشطة الوقود الأحفوري الحالية والمجالات الجديدة التي تشمل الغازات والسوائل الأخرى ذات الصلة بالطاقة كالوقود الحيوي والهيدروجين وثاني أكسيد الكربون نفسه).

مرة أخرى بعض شركات النفط الوطنية مهتمة بذلك. تخطط السعودية لإنتاج الهيدروجين وأيضا التقاط وتخزين ثاني أكسيد الكربون. ويريد تينقكو محمد توفيق الرئيس التنفيذي لشركة بيتروناس الماليزية استخدام حقول النفط المستنزفة العديدة التابعة للشركة لفصل وتخزين ثاني أكسيد الكربون في جنوب شرق آسيا. لكن الحذق التقني لشركات النفط الكبرى قد يمنحها ميزة حقيقية. في مجمع ضخم للبتروكيماويات والتكرير في بيتاون بولاية تكساس الأمريكية تشيد شركة إكسون موبيل ما تقول إنه سيكون أول مصنع في العالم لإنتاج الهيدروجين النظيف باستخدام الغاز الطبيعي. سيحول المصنع غاز الميثان والماء (في شكل بخار) إلى 28 مليون متر مكعب (بليون قدم مكعب) من الهيدروجين في اليوم إالى جانب تدفق أقل لكن مهم من ثاني أكسيد الكربون. سيتم استخدام الهيدروجين في وحدات أخرى بالمصنع أو يباع، فيما يستقبل مستودع تحت الأرض 10 ملايين طن من ثاني أكسيد الكربون سنويا.

استخلاص كميات إضافية من النفط

هذه الكمية من ثاني أكسيد الكربون (10 ملايين طن سنويا) ستجعل في حد ذاتها مصنع بيتاون أحد أكبر مشروعات فصل وتخزين الكربون في العالم. لكن هنالك الكثير من المنشآت الأخرى في منطقة هيوستن الكبرى التي قد يُطلب منها قريبا التخلص من انبعاثاتها. وتأمل إكسون موبيل في رفع إجمالي ثاني أكسيد الكربون الذي تتخلص منه إلى 50 مليون طن سنويا بحلول عام 2023 ثم مضاعفة هذه الكمية في عام 2040. وفي الأجل الطويل تقدر الشركة أن خدمة التقاط الكربون التي يمكن أن تبيعها لصناعة الوقود الأحفوري والأنشطة المنخفضة الكربون كالهيدروجين والوقود الحيوي قد تتحول إلى سوق “بتريليونات الدولارات.” شركة إكسون موبيل ونظيراتها على ثقة من قدرتها على القيام بالجزء الخاص بالتخزين في أنشطة شركات النفط الوطنية؛ لأنها تملك الكثير من الخبرة ذات الصلة. ضخ ثاني أكسيد الكربون في آبار النفط يمكن أن يكون وسيلة لاستخلاص كمية نفط إضافية كبيرة منها. هذه العملية تسمى استخلاص النفط المعزز. وإذا أثبتت الشركات بقاء ثاني أكسيد الكربون في البئر بعد استخراج النفط (بهذه الطريقة) يمكن أن تحصل على خصم ضريبي مقابل التخزين الجيولوجي للكربون فوق قيمة النفط المستخلص. في يوليو الماضي دفعت إكسون موبيل 5 بلايين دولار للاستحواذ على “دينبري” التي تملك شبكة خطوط أنابيب كبيرة لنقل ثاني أكسيد الكربون إلى الآبار التي يحتاج استخلاص نفطها إلى تعزيز. وفي أغسطس دفعت أوكسيدنتال بتروليوم المتخصصة نوعا ما في استخلاص النفط المعزز 1.1 بليون دولار لشركة كاربون ديوكسايد الكندية الناشئة والتي طورت تقنيات لفصل ثاني أكسيد الكربون من الهواء أو ما يسمى “الالتقاط المباشر من الهواء.” فيكي هولوب الرئيس التنفيذي لشركة أوكسدنتال بتروليوم (أوكسي كما يطلق عليها اختصارا) لديها خطط كبيرة لاستخدام هذه التقنية. حيث حصلت أوكسي على منحة من الحكومة الأمريكية تصل إلى 600 مليون دولار لمقابلة المبلغ المطلوب والذي يتراوح عند حوالي بليون دولار أو أكثر لتشييد منشأة تجارية في تكساس تلتقط الكربون من الهواء مباشرة ويمكنها إزالة مليون طن من الغلاف الجوي سنويا. وتخطط أوكسي لبناء أكثر من 100منشأة بذات الحجم لكي تتمكن الشركة من تقديم براميل من النفط مرتبطة “بأرصدة إزالة الكربون الموثقة.” من شأن هذه الأرصدة أن تضمن فصل كمية من ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي في إحدى منشآت أوكسي مساوية لتلك التي تنتج عند حرق النفط في البرميل.
تقول هولوب: القدرة على بيع نفط صفري الانبعاثات من هذا النوع سيمنح شركتها رخصة التشغيل “الاجتماعية” التي تحتاجها للاستمرار في نشاطها النفطي. عندما تقول هولوب: “لن نترك النفط والغاز” لا شك ذلك يعزز شعور البعض بأنهم على صواب. هؤلاء البعض هم أولئك الذين يعتقدون أن الاندفاع نحو تقنيات التقاط وتخزين الكربون والالتقاط المباشر للكربون من الهواء والهيدروجين المستخلص من الوقود الأحفوري يُقصد به إلى حد كبير أن يكون مجرد غطاء لأنشطة الوقود الأحفوري المعهودة. حتى صقور حماية المناخ الكرماء -بما يكفي لتجاهل التاريخ المعيب لصناعة النفط في الترويج لإنكار التغير المناخي مع علمها بأنه (أي الإنكار) غير صحيح- سينزعجون من فكرة استخدام تقنية الالتقاط المباشر للكربون من الهواء لإنتاج براميل بنزين خضراء بدلا من التعويض عن الانبعاثات الكربونية التي يصعب جدا تجنبها.

لكن لا يلزمك أن تقتنع بخطط أوكسيدنتال لتعتقد أن التقاط وتخزين الكربون أفضل طريقة للتخلص من الكربون في بعض المنشآت الصناعية وأن الهيدروجين قد يكون حلا جيدا لبعض المشاكل أو أن الالتقاط المباشر للكربون من الهواء له دور ما في المستقبل. شركات النفط لديها الميزانيات ومهارات إدارة المشاريع والمعرفة الهندسية اللازمة للقيام بذلك. مثل هذه الأعمال تبدو وكأنها أكثر ملاءمة للشركات من الكهرباء المستمدة من الموارد المتجددة. (بخلاف مشروعات التطوير البحرية التي لدى شركات النفط الكبرى خبرة بها).

فائض حجارة

فكرة أن عصر النفط سينتهي ليست جديدة وكذلك فكرة أنه سينتهي بسبب البدائل وليس نقص الإمدادات. ليس من المتوقع تلاشي الطلب على النفط تلقائيا بسبب ظهور بدائل أفضل أو ارتفاع الأسعار. بل تدهوره التدريجي سيتبع مسارا محكوما بسياسات متعمدة (وليس بقوى السوق). لكن ذلك المسار لم يُقرّر ولن يظل ثابتا. وفي حالة عدم اليقين بشأن مسار الطلب على النفط من المعقول أن يحاول البعض الاتجاه إلى البدائل الأخرى (التنويع والاستثمار في موارد وصناعات الطاقة البديلة) فيما يضاعف آخرون الرهان (على استثماراتهم في النفط) ويصرون على أن الطلب عليه سيستمر. البعض سيكسب والبعض سيخسر. وتعدد الخيارات قد يعني أن صدمات العرض سيتم تقليلها على نحو لا يمكن ضمان تحققه إذا تخلى كل أحد عن صناعة النفط. لكن هنالك مصدرا ثانيا للقلق. نهاية العصر الحجري لم تكن تعني أن الحجارة لم تعد تُستخدم بعد بداية عصر البرونز. فالعالم لا يزال يستخدم كميات كبيرة منها. البعض في صناعة النفط يعتقد كما يبدو أن نفس الشيء ينطبق عليهم. ربما يفقد هؤلاء النقل البري كما فقدوا توليد الكهرباء. لكن صناعة النفط ستبقى مع استمرار الحاجة إلى المنتجات التي يصعب إحلالها كوقود الطائرات ولجوئها إلى بعض الالتقاط المباشر للكربون من الهواء لتنظيف منتجاتها وتلميع صورتها. مثل هؤلاء المتشبثين بصناعة النفط سيدافعون بضراوة عن السياسات التي تبطئ التحول بعيدا عنهم، تماما كما يدافع أنصار الموارد المتجددة عن قضيتهم المضادة. والاختلاف هو أن أولئك الذين يروجون لبقاء صناعة النفط يفعلون ذلك بشراسة أشد من أولئك الذين يتطلعون ببساطة إلى مزيد من النمو. صدمة أكتوبر 1973 كشفت للموردين والمستهلكين أنهم لا يدركون تماما إلى أي حد صار العالم معتمدا على النفط، وكيف جعل تلك القلاقل الجيوسياسية اللافتة ممكنة. أزمة اليوم هي أن المستهلكين لا يعلمون الخيارات المتاحة لهم والمنتجين ليسوا على يقين بشأن قدرتهم على التكيف والبقاء. وفي حين أن الأزمة الحالية ليست بذات القدر من الإثارة (كما هي الحال في أزمة 1973) إلا أن التهديد الذي يواجه المناخ يعزز من أهميتها.

الإيكونومست – ترجمة: قاسم مكي
صحيفة عمان

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى