آراء

فقه الـمُهاتفة

من الواضح تفاوت حظوظ الناس في العلاقات واستثمارها، وتطويرها واستدامتها، وما هي إلا من الأرزاق التي كُتب للناس التفاوت فيها، لكنها كسائر الأرزاق في أنّ لكسبها وحفظها وإبقائها أسباباً ترتبط بها بإذن الله تعالى وحكمته البالغة، فمن بَذَلَ هذه الأسباب فحريٌّ بأن تدوم له الصداقات، ويتوطد بينه وبين خواصه الإخاء، ومن تهاون بها لم يزل يُبتلى بخسارة صديقٍ تلو صديقٍ، ولو نجح في سرعة إنشاء صداقاتٍ متجددةٍ لم يحظَ من جديدها بطائلٍ يُذكر، ومن أهم الأسباب المؤدية لنجاح المودة بين المتآخيين: مراعاة الحدِّ الذي يحتمله كلُّ أحدٍ، وهذا من أنواع أخذ العفو المأمور به في قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)، وقد بين بعض الحكماء أن أخذ العفو من أسباب دوام المودة، فقال: خُذِي العَفْوَ مِنَّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي … وَلاَ تَنْطِقِي في سَوْرَتي حِينَ أغْضَبُ

وقد جاءت وسائل الـمُهاتفة الحديثة فأَنْسَتْ كثيراً من الناس أهمية أخذ العفو، ومركزيته في إدارة الصلة، فكان ذلك في كثيرٍ من الأحيان سببَ حزازةٍ بين اثنين لا ينبغي أن تقع بينهما الحزازة لو أخذ الطرف المتجاوزُ العفوَ من أخيه، ولي في فقه الـمُهاتفة وقفات:

الأولى: يجهل كثيرٌ من الناس أن له حدوداً يفترض أن يُراعيها وأن لا يتخطاها، وهذه الحدود إنما يُقررها الشرع، ويرسم تفاصيلها النظام، ويُوطّد فيها العرف كيفياتٍ يَـحْسُنُ أن تُراعى، ولا أثر لقدرات الإنسان وإمكاناته في تسويغ تخطي الحدود الفاصلة التي تُوضعُ أمامه في هذا الطريق، ومن هنا يغلط كثيرٌ من الناس، فيظن أنه إذا أمكنه أن يصل إلى الشيء فمن حقه أن يصل إليه متى وكيف شاء، ويتصور أن العجز هو الحاجزُ الكافُّ عن تعاطي ما تميل إليه النفس، فعلى هذا يُتيحُ لنفسه الحقَّ في الاتصال بفلانٍ متى شاء، وفي الحدود التي يُريدها؛ لأن ذلك لا يحتاج إلا إلى مجرد لمسةٍ على شاشة جوال، والواقع أن تطور وسائل الاتصال لا يُمكنُ أن يُعفي المتصل من وجوب الالتزام بالتعليمات الشرعية، والآداب العرفية الضابطة لتواصل الناس فيما بينهم، وإذا كان الشرع قد وضع الحدود للزائر بعد مَشْيهِ إلى باب المزور، مع أن الانتقال إلى المنزل هو أبلغُ أنواع التواصل وأشقُّها، فألزمه الاستئذان، وأمره بالرجوع إذا قال له صاحب المنزل: ارجع، ولم يُعطه حرية تكراره إلى ما لا نهاية، بل حدَّده له بأن يسْتَأْذِنَ ثَلاَثًا، فَإن لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ، فالاتصال بالهاتف من باب أولى، فإذا أعطاه من الـمُتَّصَلُ به المشغول فقد اعتذر إليه، فعليه أن يكفَّ عنه كما لو اعتذر له عند الباب، وإن لم يردَّ عليه ثلاثاً فعليه أن يكفَّ كما لو لم يأذن له بعد الثالثة.

الثانية: الـمُهاتفةُ لها أسبابٌ وملابساتٌ حسب الأحوال والأشخاص، والنوعُ الـمُحتاجُ إلى أن يُنبَّهَ على آدابه وتأثيره على الصلة بين الناس إيجاباً أو سلباً إنما هو العامُّ بين الإنسان وأغلب أصدقائه ومعارفه، ومن يعرضُ له سببٌ عابرٌ يقتضي التواصل معه، وهناك اتصالاتٌ أخرى رسميةٌ ضروريةٌ أو شبهها كالـمُهاتفةِ بين الإنسان وأبويه وبين الزوجين، وهذه يفرضُ الحالُ انضباطها والتحسب لها، وإعطاءها من الاستثناءات كُلَّ ما يليق بها، وكذلك اتصالاتُ العملِ وشبهها كما يحصل بين خواصِّ زملاءِ العمل، وهذه تُنظِّمُها اتفاقاتٌ وتفاهماتٌ مُلزمةٌ للطرفين وشبه مُلزمة، وشأنها الانضباط، والخطأ الذي يقع فيه كثيرٌ من الناس يَكمُنُ في أن يتخيَّلَ لنفسه مثل حقِّ الأسرة، وشؤون العمل في تواصله مع الآخرين، وفي هذا إحراجٌ وتعنّتٌ في التعامل، وقد يصل الحال ببعض الناس إلى أن يُكرِّرَ على صاحبه الاتصال، فإذا ترك الـمُتَّصَلُ بِهِ انشغاله وأجابه بادَرَهُ بنبرةِ الـمُحاسبةِ على عدمِ ردِّ مكالماته الماضية، ولم يُقدِّر ما حصل منه الآن، ولبعضهم في ذلك عبارةٌ مُستفزةٌ يُفترضُ تجنُّبُها حسب الإمكان (وراك ما ترد).

الثالثة: الثقة بين كل اثنين من المـتآخيين رأس مال المودة، وإذا تصدَّعت صَعُبَ ترميمُها، والمحافظة عليها مسؤولية الطرفين، وهي نعمةٌ غاليةٌ، فإذا رُزِقَ الإنسانُ هذه الثقة مع أخيه، فلا ينبغي له امتهانُها، وامتحانُ عُمْقِها في كل موقف، بل عليه أن يتغافل عن كل ما يُمكنُ أن يُشكِّكَهُ فيها، وإذا لَـمَحَ ما يتعارض معها ارتكب التأويلات التي تُبقيها ما أمكنه ذلك، وبعض الناس يعكس هذا التدبير الأخوي، فإذا راسلكَ ولم تردَّ عليه حاكمك إلى إشعارِ الواتساب بأنك مُتصلٌ، وأنك رأيتَ رسالتَهُ وقرأتَها ولم تُجب، ولا يُفيدُ معه أن تكون رددتَ عليه لاحقاً، وفي هذا تعريضُ الثقةِ للاهتزاز بلا داعٍ، وأخذُ العفوِ يقتضي أن ينتظر الإنسان ردَّ أخيه، وأن يُقدِّرَ ظروفه.

أ.د. حمزة بن سليمان الطيار- جريدة الرياض

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى