آراء

هل تكون غزة بوعزيزي جديد؟

بقي ابن الأثير سنوات وهو متردد في تأريخ جرائم المغول وما اقترفته أيديهم في حواضر الإسلام المختلفة، آخرها وأبشعها كانت جرائمهم الوحشية في بغداد، والتي تفوقت على وحشية وجنون نيرون وهو يحرق روما.. وأحسبُ أن ابن الأثير لو جاء اليوم لتأريخ زمننا الأغبر هذا، لهاله الأمر وربما اعتبر وحشية ودموية المغول لا شيء مقارنة بإجرام ووحشية الصهاينة في فلسطين.

ما كنا نقرأ عنه قديماً عن بدايات دخول العصابات الصهيونية إلى فلسطين، والمذابح التي ارتكبتها أيديهم ضد الأهالي في فلسطين وبدعم من الاستدمار أو الاستخراب البريطاني حينذاك، لا أظنها ترقى لمستوى الجرائم الحالية المرتكبة من قبل العصابات الصهيونية المتحكمة في المحيط العربي والغربي، وبدعم أمريكي علني لا محدود.

مهما يحاول المرء وصف ما يجري في غزة على مدار أكثر من سبعين يوماً، فسيكون وصفه ناقصاً لا يفي بحق المشاهد الإجرامية التي صار العالم يتابعها لحظة بلحظة وبالصوت والصورة، وإن كانت المتابعة دون كثير وسريع تأثير. نعم، هناك تفاعل وتحرك هنا وهناك، لكن السمة الغالبة على كل تلك التحركات والتفاعلات هي البطء الشديد، وعدم فاعليتها الفورية في التقليل من الجرائم الصهيونية، وإن كنت أجزم بأن فاعليتها ستظهر بعد حين بإذن الله، فهي عمليات بدأت كما لو أن القائمين عليها لم يسمعوا بمأساة شعب صار عمرها أكثر من سبعين عاما ! لكن مع ذلك، هي بحول الله وتوفيقه، عمليات تحتاج إلى أن تنضج على نار هادئة.

الصورة الكبيرة لمشهد غزة تبدو للمتابع أنها دموية مجرمة، ووحشية غير مسبوقة، وهي كذلك دون كثير نقاش، لكن مع ذلك لا يجب أن تأخذنا الصورة الكبيرة عما يجري في غزة العزة من تفاصيل دقيقة متناثرة في أجزاء وزوايا كثيرة داخل الصورة الكبيرة. إنها التفاصيل التي جعلت العدو الصهيوني لا يهنأ ويسعد بأي إنجاز يقوم به – على افتراض أنه ينجز – لأن جل ما يقوم به هو تدمير وتهجير وإبادة، وهي أفعال لا يمكن أبداً أن توصف بالإنجاز، إلا إن كان الفاعل به خلل وصمم وعمى، وهي كلها توفرت في العدو الصهيوني، وبسببها يعتبر تلك الأفعال إنجازاً !!

الشاهد من الحديث، أن الصورة الكبيرة المرئية الآن للعالم كله، لا يجب أن تبعث على اليأس والإحباط، لأنه كما أسلفنا، هناك الكثير الكثير من المشاهد في ثنايا وأرجاء هذه الصورة الكبيرة، وهي التي ستكون قاصمة الظهر للعدو، بل هي التي ستنطلق منها أهازيج النصر بإذن الله.

ما يقوم به شباب القسام على أرض غزة العزة، عمل بطولي غير معتاد في الحروب، بشهادة أهل الخبرة والمجال. ولو لم تكن مقاومة شباب القسام بطولة وفدائية عجيبة وسببت لهم الكثير من الآلام، ما كان العدو يضطر أن يتكلم عنها بصورة وأخرى، وينشر خسائره تحت وطأة ضربات الياسين وصواريخ القسام المتنوعة.

مفاجآت القسام المتصاعدة والمتنوعة أصابت العدو بذهول ودهشة، صار على إثرها لا يستطيع أن يفيق من واحدة حتى تأتيه أخرى وثالثة وعاشرة، بل ظني أن هناك الكثير الكثير بالطريق، كلما حمي الوطيس. وما كثرة الجثث في التوابيت ومئات أخرى محترقة في أكياس القمامة، مع آلاف الجرحى والإعاقات الجسدية والنفسية في جنود جيش العدو الجبان، إلا دليل على كثرة وتنوع مفاجآت القسام، واستدراجهم للعدو من حيث لا يعلمون.

مع استبشارنا وسعادتنا بأن كثرة المفاجآت القسامية دليل على أن الأمور تسير وفق ما خطط له شباب القسام بفضل من الله ورعايته، وأن المسألة مسألة وقت ليست أكثر، على رغم أرقام الضحايا المتزايدة يومياً، إلا أن مع هذا الاستبشار وهذه السعادة التي يشعر بها كل مؤمن، يسوؤنا في الوقت نفسه خذلان عربي مسلم، وهوان عميق يلف المسلمين – الرسميين بصورة أكبر – على اعتبار أن الغالبية الشعبية العربية المسلمة مع الحق وأهله، لكنها أغلبية شبه عاجزة ومقيدة، لكنه في اعتقادي، قيد مؤقت لن يدوم، بل لابد لهذا القيد أن ينكسر.

أقول بأن القيود تلك مؤقتة، ولابد أن تنكسر بشكل وآخر، اليوم أو غداً، لأن الوضع هذه المرة ربما يختلف عن كل المرات السابقة، خاصة أنه أثار انتباه العالم أجمع، بدليل التفاعل العالمي المستمر والمتصاعد، وإن كان بطيئاً بالنسبة لنا كمتحفزين ومتسرعين ومتلهفين لرؤية نصر مؤزر مبين على أعداء الله وأعدائنا.

الجموع العربية المسلمة المقيدة ربما هي بانتظار شرارة تفجر وتكسر قيودها لتنطلق، وإن مؤشرات كثيرة ظهرت ووضحت هنا هناك إلى الدرجة التي بدأت وسائل إعلام غربية تستشعر بذلك، وتنذر بإمكانية حدوث تحولات دراماتيكية في الوطن العربي بسبب أحداث غـزة، خاصة لو انتهت الأحداث بنصر حمساوي مؤزر مبين بإذن الله.

ذهبت تلك الوسائل الإعلامية الغربية تستشرف مستقبلاً قريباً للمنطقة، فوجدت ما لا يسرها ويسعدها، فبدأت من فورها عبر تقارير وتحليلات تنذر الغربان قبل العربان بأن المتوقع من نتائج هذه الأحداث، موجة ثانية من ربيع عربي ينتظر شرارة كشرارة البوعزيزي، لينطلق من أي نقطة عربية، بل والأخطر – بحسب المراقبين الغربيين – أن الربيع العربي الثاني لو انطلق هذه المرة، فسيكون بروح إسلامية تغلي، بل متلهفة وبالغة الحماس، ستطيح بكل مشروعات الغرب في المنطقة، الإعلامية منها والتربوية، والأخلاقية، والسياسية وغيرها، وستكون الولايات المتحدة المسؤول الأول عن انهيار كل تلك المشروعات، بسبب دعمها الأحمق والمفضوح وغير المبرر لاحتلال صهيوني زائل لا محالة.

هكذا ينظرون هم إلى مستقبل منطقتنا، فيما كثير منا في خضم الأحداث الجارية منشغلين بتفاصيلها اليومية، لا نعبأ كثيراً بالغد القريب كما يفعل هذا الغريب. لكن مع ذلك نعود ونكرر بأن أحداث غزة قد غيرت فينا بفضل الله، الكثير من المفاهيم، والكثير من طرائق التفكير والنظر إلى الأمور، ولابد أن نتائج ذلكم التغيير سيكون لصالحنا بإذن الله على هيئة (نصر من الله وفتح قريب). (وسيقولون متى هو قل عسى أن يكون ذلك قريبا).

د. عبدالله العمادي – الشرق القطرية

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى