آراء

إذا كان لا بد أن أموت!

«أنا أكاديمي، وإذا هاجم جنود الاحتلال بيتي، فإني سألقي عليهم القلم.. ولو كان آخر شيء أفعله»!

وهذا ما فعله الشاعر الفلسطيني رفعت العرعير الذي رثى نفسه قبل استشهاده بقليل ليس لأنه استشعر قرب اللحظة الأخيرة وسط موات جماعي عام وحسب ولكن أيضا لأنه بهذا الرثاء الشعري الشفيف في قصيدة اجتاحت منصات التواصل الاجتماعي في العالم كله يشير إلى مأساة غزة مع الاحتلال.

ورثاء النفس ليس غريبا، على غرائبيته الوجودية، في ديوان الشعر العربي، فكثيرون فعلوا ذلك قبيل اللحظات الأخيرة، أشهرهم مالك بن الريب.. وحيداً في مفازته البعيدة القديمة حيث الموت هو عنوان كل شيء وحيث الفقد الذاتي هو الأسلوب الوحيد لمقاومة الانهيار!

فعلها رفعت العرعير رحمه الله في سياق الحرب الدامية التي تشنها قوات الاحتلال الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني في غزة منذ أكثر من شهرين. رثى نفسه وكأنه يرثى شعبا كاملا قرر المقاومة في سبيل تحرره الشخصي بتحرير وطنه.

ورفعت العرعير، الفلسطيني المولود في قطاع غزة أكاديمي وشاعر باللغة الإنجليزية وإعلامي أيضا، وهو المؤسس والمشرف على قسم الإعلام الاجتماعي في المركز الفلسطيني للإعلام، وكان من بين المؤسسين لمشروع «نحن لسنا أرقاما» إشارة إلى شهداء الحرب الراهنة من الفلسطينيين الذين لا تذكرهم وسائل الإعلام العالمية في الغالب إلا كأرقام متجاهلة تفاصيل يومياتهم المنتهية على خط الموت تحت القصف الصهيوني.

في السابع من ديسمبر 2023، ارتقى رفعت العرعير شهيدا جراء قصف الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، واستشهد معه شقيقه وشقيقته وأربعة من أولادها ليضافوا إلى تلك الأرقام التي تتناقلها وسائل الإعلام بذلك الحياد البارد المُدّعى، لكنه ألقى أثناء ذلك قصيدته في وجوه الصهاينة قبل النهاية المعتادة، فذهب الشاعر وبقيت القصيدة.

يقول العرعير في ترجمة قصيدته التي كتبها أصلاً باللغة الإنجليزية، ورسم فيها واقعا فلسطينيا قديما يتجدد مع الاحتلال صباح كل يوم، كنبوءة موت مؤكد في ظل واقع فلسطيني بائس؛

«إذا كان لا بدّ أن أموت

‏فلا بد أن تعيش أنت

‏لتروي حكايتي

‏لتبيع أشيائي

‏وتشتري قطعة قماش ‏وخيوطاً

‏(فلتكن بيضاء وبذيلٍ طويل)

‏كي يُبصر طفلٌ في مكان ما من غزّة

‏وهو يحدّق في السماء

‏منتظراً أباه الذي رحل فجأة

‏دون أن يودّع أحداً

‏ولا حتى لحمه ‏أو ذاته

‏يبصر الطائرة الورقية

‏طائرتي الورقية التي صنعتَها أنت

‏تحلّق في الأعالي

‏ويظنّ للحظة أن هناك ملاكاً ‏

يعيد الحب ‏إذا كان لا بد أن أموت

‏فليأتِ موتي بالأمل ‏فليصبح حكاية».

وسرعان ما اجتاحت القصيدة العالم كله تقريبا بروحها الشفيفة وموضوعها الإنساني المرهف رغم أنها منبعثة من تحت القصف وركام البيوت المهدمة على رؤوس أهلها، والموزونة على وقع أصوات القنابل والصواريخ! لقد عرف العرعير كيف يبقى في قلب قصيدته المكتنزة بالأمل، رغم موضوعها الدامي، ويصبح موته حكاية خالدة.

في واحد من تصريحاته الصحفية اللافتة والذكية قال العرعير: «عندما نكتب عن الشهداء، يجب أن نذكر أن الاحتلال قتلهم. يجب أن لا نترك الفعل للمجهول».

ونحن سنفعل ذلك الآن؛ نعم.. لقد قتل الاحتلال الصهيوني رفعت العرعير.. مع سبق الإصرار والترصد، لكن هذا الاحتلال الغبي رغم ذلك لم ينجح في إنهاء الحكاية. فقد بقيت القصيدة وبقي الأمل!

سعدية مفرح – الشرق القطرية

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى