آراء

لماذا الأزمة السودانية عصية على «الإيقاد»؟

لعل كل التجمعات الدولية كانت قد نشأت بعد معاناة من الحروب، باعتبارها أدوات لحل المشكلات والأزمات بين الدول عوضا عن إعمال آلة الحرب، ولو لم تتوفر القناعة بعبثية الحروب وآثارها المدمرة لما تداعت الأمم لإنشاء هذه المنظمات. وهكذا مضت الدول الأقل نموا في إنشاء منظمات إقليمية تُعنى بقضاياها الإقليمية، لكن كثيرا منها تحول لفائدة موظفيها بالدرجة الثانية وبالدرجة الأولى فائدة الدول الكبرى التي لم تتخل بعد عن أطماعها الاستعمارية. لقد تحولت دول الايقاد من منظمة تختص بمكافحة الجراد والتصحر إلى هيئة سياسية منغمسة حتى أخمص قدميها في جدال السياسة، بينما ظل الجراد يرتع بحرية في دوله المنكوبة بفشل ساستها ونخبها مسببا الجوع والمسغبة، كما مضى التصحر يقضم الأراضي الزراعية قضما ويبتلعها ابتلاعا. بل تحولت كابينة السكرتارية لمخلب قط تبيع خدماتها للقوى الدولية والإقليمية الطامعة في التحكم في الأنظمة الأفريقية وموارد شعوبهم ودولهم التي لا حدود لثرائها ووفرتها. كذلك تحولت منظمة دول «الايكواس» في غرب إفريقيا من هيئة معنية بتطوير الاقتصاد والتجارة لدولها إلى حلف نيتو أفريقي وقررت خلال الشهور الماضية غزو دولة النيجر بسبب انقلاب داخلي يبدو قد وجد سندا شعبيا، لكنها تراجعت بشكل مخجل، وهي بذلك لا طالت عنب الشام بتحقيق هدفها التنموي الأساسي ولا بلح اليمن بإجبار الانقلابيين في النيجر على التراجع.

وفي كلا المثلين؛ «الإيقاد» و»الإيكواس» نجدهما انطلقا في تحركاتهما ليس لمصلحة شعوب القارة وتحقيق تطلعاتهم في التنمية والرخاء وإنما لمصلحة الذين يحركون مسرح العرائس من وراء الكواليس، بينما بقيت العرائس فرحة بفتات يرضي مصالحها الشخصية الضيقة. وبالتالي لم تعد هذه المنظمات تحظى بأي ثقة في القيام لا بدور سياسي متعلق بتولي الوساطة بين المتصارعين في النزاعات التي تعج بها دول القارة ولا بتحقيق أهداف تأسيسها. وقد أبرزت الحرب الدائرة في السودان بسبب تمرد مليشيا الدعم السريع على الجيش الوطني بشكل جلي عيوب منظمة الاتحاد الأفريقي وما يدور في فلكها من تجمعات. في الأسبوع الماضي تجدد التوتر بين السودان و»الإيقاد» إثر رفض الخارجية السودانية نقاطا جوهرية وردت في البيان الختامي للقمة الطارئة لزعماء دول المنظمة في جيبوتي والتي خصصت لبحث الأزمة السودانية، وأقرت خطوات لوقف الحرب، المستمرة منذ 15أبريل الماضي، بعد ما انتقدت الخرطوم المنظمة ودور اللجنة التي شكلتها برئاسة الرئيس الكيني الذي اعتبرته شخصا غير محايد وأبدى ميلا لصالح المليشيا التي يرتبط بها بمصالح شخصية.

وبلغ غضب الخرطوم بأن هددت بالانسحاب من «الإيقاد» وفشلت حينها وساطة «الإيقاد» لإصرار الرئيس الكيني على رئاسة لجنة الوساطة رغم رفض الخرطوم مما عزز اتهامات الخرطوم له، وهنا يكمن الخلل فلا يمكن نجاح أي وساطة دون قبول أطراف النزاع بها، ولذا لم تملك «الإيقاد» الديناميكية المطلوبة لمعالجة ما يثير قلق الخرطوم.  وفي محاولة «الإيقاد» الأخيرة أخذت الخرطوم عهدا بمعالجة ما رأته خللا بعد جولات لرئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان في كل من كينيا وإريتريا وجيبوتي وإثيوبيا وتم الاتفاق على ترتيبات وافقت الخرطوم على إثرها على حضور قمة لدول «الإيقاد» مخصصة للأزمة السودانية. لكن الخرطوم تفاجأت بصدور بيان للقمة غير متفق عليه عقب مغادرة البرهان، قالت وزارة الخارجية السودانية، إنها تتحفظ عليه تماما. إذ تضمن مسائل لم يتم الاتفاق عليها وأقحمت إقحاما لصالح جهات إقليمية ودولية تدعم مليشيا الدعم السريع. وكان البرهان قد اشترط إقرار وقف دائم لإطلاق النار في البلاد، وخروج المليشيا من الخرطوم قبل لقاء مفترض مع من يتولى قيادتها حاليا. وليس الفشل في تحريف وربما تزوير بيان القمة فتلكم طامة ولكن الطامة الأخرى إعلان «الإيقاد» عجزها بأن أقرت مظلة موسعة من 22 دولة ومنظمات إقليمية ودولية معنية بملف السودان، وآلية من «إيغاد» والاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة لمعالجة الأزمة وابتدار عملية سياسية تجمع الفرقاء السودانيين. وكما يقولون إذا أردت إفشال عمل شكّل له لجنة موسعة ومتضخمة تظل تلت وتعجن دون انجاز. وهناك اعتقاد لدى أوساط سودانية عديدة بأن تسارع المبادرات الملغومة اللاهثة يتزامن مع تسارع خطى الحسم العسكري التي يخطوها الجيش السوداني على أرض ما يعتبره السودانيون معركة الكرامة.

وتعلم القوى المتربصة الدافعة لهذه الوساطات بأن التفاوض مسار مغلق وأنه ليس أكثر من فخ وصناعة بيروقراطية بهدف تعطيل تقدم الجيش الوطني، ومنعه من قطف ثمار الانتصار العسكري التي بانت مؤشراته. وأن الالتفاف على رؤية السودان للحل لا يمكن أن يتم بطريقة ساذجة في اصدار بيان محرف، وفي ذلك جهل برسوخ الدبلوماسية السودانية ودور السودان الإقليمي باعتباره واحدا من المؤسسين الرئيسين للاتحاد الأفريقي و»الإيقاد». والخلاصة أن تحفظات السودان تتعلق بقضايا جوهرية لا يمكن تجاوزها ببيان مزور وبالتالي سيتجاهل السودان مخرجات القمة لأنها لا تعنيه في شيء. والمشكلة أنه حتى الجهات الأجنبية لها أجندات متضاربة، وكلما استمرت التدخلات الأجنبية تعقدت الوساطات والمبادرات، كما لا يوجد حل سياسي في الأفق، لأن منطق المليشيا هو الحرب والبندقية والحرب على المواطنين العزل وانتهاك حرماتهم واحتلال بيوتهم وسرقة أموالهم. فلا رؤية سياسية تحكمها ولا وحدة مركزية تستطيع التحكم في جموع مقاتلين تحولوا إلى عصابات. ولعل السودان غير معني بأي حل لا يتضمن حماية سيادته واستقلاله ووحدة أراضيه وشعبه. فضلا أنه لا مناص من وجود جيش وطني واحد، يحتكر استخدام القوة العسكرية ففي ذلك ضمانة اساسية للاستقرار والسلم ليس في السودان وانما في كل الإقليم. كما أنه من الضروري إعمال مبدأ المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب على الفظائع غير المسبوقة من جانب المليشيا المتمردة، هو السبيل الوحيد لعدم تكرارها. ولا يجب أن يكون حمل السلاح وشن الحرب على الدولة وسيلة للحصول على امتيازات سياسية غير مستحقة فالوصول إلى السلطة يتم عن طريق الانتخابات.

د. ياسر محجوب الحسين – الشرق القطرية

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى