آراء

ضجيج الصمت

للصمت فنون عدة لا يتقنها الكثير، لأنه حالة من النضج الفكري الناتج من الخبرات التراكمية وارتفاع منسوب التركيز، وانتفاخ عضلات الثبات الانفعالي، وحين نولد نحتاج إلى عامين لنتعلم الكلام، ولكننا نمكث عشرات الأعوام حتى نتقن لغة الصمت.

ولكن علينا أن نستخدمه في مكانه ووقته، فالسكوت عن قول الحق رذيلة لا تغتفر، والصمت في حرم البطش والظلم إثم عظيم، وعبر عن هذا مارتن لوثر كينج قائلا: التراجيديا الكبرى ليست الاضطهاد والعنف الذي يرتكبه الأشرار، بل صمت الأخيار على ذلك، أما الصمت وقت الاحتياج ذنب في حق النفس، واحتباس المشاعر في حضرة المحبوب صمت غير حميد يصيبك بحالة عصيبة من الضجيج الداخلي والتشويش التفاعلي.

إنما التحلي به وقت الثرثرة الفارغة.. ترفع، وحين المشاحنات والخلافات.. رقي وترويض للنفس، ووقت الأزمات.. تروٍ وتعقل، لأنه يمنحنا فرصة كافية للتفكير والتدبر حتى نتمكن من تخطي أي مشكلة، وكما قال لوروا براونلو: هناك لحظات يكون الصمت فيها أعلى صوتاً من الكلام.

وبعض الصمت سلاح أقوى من إطلاق الكلمات مهما كانت غلظتها وقسوتها، لأنه يصيب خصومك بحالة من الرهبة والارتباك وربما الخوف المقنع، فلا أحد يعلم ما يجول بخاطرك، وما يحويه رأسك، وتصيبهم حالة من التكهنات بغية الوصول إلى مخططك، ولكن دون جدوى، وفي حال تفتقت أذهانهم للوصول إلى هدفهم وصادفهم صواب التخمين، فقد استطعت أن تستهلك مخزونهم الإستراتيجي من الأفكار، وتستنفد قدرًا من طاقاتهم.

أما وأن تختار ان تصبح كتابًا مفتوحًا للجميع، فتأكد أنهم سوف يقرأونك بسهولة، وبالتالي فالوصول إلى مفاتيح حياتك الداخلية والخارجية في منتهى اليسر!
ولن تأمن شرورهم وغدرهم، وكأن الصمت يعد “فاكسين” للتحصين ضد بعض الآفات البشرية.

والصمت أجمل الفضائل حين عدم المعرفة والدراية، فليس عيبًا أنك لا تعلم فتتحلى به بدلا عن أن تتحدث فيما لا يعنيك لمجرد أن تصبح “أبوالعريف”، وأكدت الكاتبة الأمريكية سوسان جريفين هذا قائلة: تُروى القصة بالصمت بالمقدار نفسه الذي يرويها فيه الكلام.

وفي بعض الأحيان يكون نوعا من الخجل، ولكن أشد أنواع الصمت وطأة هو الناجم عن الحزن، لأن الحزن المتراكم على جدران النفس يصيبها بالهلاك واحتراق الشعيرات الحسية والعصبية، وتآكل الأوعية الدموية وانهيار جدران القلب.

والبوح هنا يصبح هو العلاج الأنسب، للتخلص من نتوء الحزن المتبعثرة حول الروح، وارتفاع سيولة المشاعر، ففي بعض الحالات تخلصنا الفضفضة من عبء دفين، ولكن علينا الالتزام بمعايير الاختيار الصائب، فقد تضطرنا الضغوط إلى البوح مع أشخاص يتحولون فيما بعد إلى قنابل موقوتة تنفجر في حياتنا بلا مبرر، كن حريصًا مهما ضاقت بك الدنيا وامتلأت خزائن النفس، فليس كل قريب طبيبًا، وليس كل صديق أمينًا، فقد غدونا في عالم مكتظ بالأقنعة الزائفة والأهداف المستترة.

وعليك أن تدرك جيدًا أنه لا أحد سيشعر بألمك ويتألم لوجعك، فأقصى ما يمكن تقديمه في الأغلب هو الإنصات وربما “الطبطبة” أو أن يصاب البعض بالامتعاض والتأذي الحسي المؤقت، ثم ينهي الحديث معك ليستكمل يومه، وكأنك فقرة تراجيدية في برنامجه اليومي يمكن تخطيها لفقرات أخرى.

لذا عليك أن تتذكر دائمًا أن الندم على الكلام أكثر ضراوة من ندم الصمت.. فاصمت!

وعلى الصعيد الآخر لن ننسى أن الصمت الطويل نقمة في بعض الأحيان، فالسكوت في حضرة المحبوب فتور يؤثر سلبًا على التفاعل المطلوب للتواصل العاطفي، وربما تصاب مشاعرك بجلطات متحركة، ويتحول للأسوأ حين تطول الفترة؛ لأنه يخلق فجوة ضخمة مملوءة بالجفاء والتبلد والبرودة.

وربما يحيطك بجدار من العزلة النفسية التي تمنحك لقب “انطوائي”؛ لأنك غالبًا منغلق على ذاتك فلا أحد يسمعك ولا تسمع لأحد.

وللشاعر السوري نزار قباني رأي آخر:
إنِّي لأرفضُ أن أكونَ مُهرّجًا .. قزمًا على كلماته يحتالُ
فإذا وقفت أمام حسنك صامتًا.. فالصمتُ في حَرَم الجمال جمالُ
كَلِماتُنا في الحُبِّ تقتلُ حُبَّنَا.. إن الحروف تموت حين تُقال.

د. هبة عبدالعزيز – بوابة الأهرام

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى