آراء

مقومات إنقاذ الدولة السودانية

تريد قوى دولية بأدوات إقليمية وعملاء محليون تفكيك وتحطيم الدولة السودانية وجعلها أثرا بعد عين ضمن مشروع إستراتيجي لا يستهدف السودان فحسب وإنما يستهدف المنطقة بأكملها وهذا غدا معلوما لكل ذي بصيرة أو ألقى السمع وهو شهيد. ومن يرى اليوم جرائم وممارسات مليشيا الدعم السريع منذ الخامس عشر من أبريل، يدرك حجم المؤامرة ومدى استعجال المتربصين لدك قواعد الدولة السودانية وبُناها التحتية وقدراتها ومقوماتها وفوق كل ذلك إنسانها عصب الدولة وأهم مقوماتها. ومقومات كل دولة هي مواطنوها، ورقعتها الجغرافية، وسيادتها الوطنية، وثقافتها وتاريخها وحضارتها، وسلطتها المركزية بما في ذلك استمراريتها السياسية. كل هذه المقومات كانت أهدافا عسكرية هاجمتها المليشيا بضراوة وبلا هوادة ولم ترقب فيها إلا ولا ذمة.

ومع التهديد العسكري الخطير المحيط بكيان الدولة السودانية والذي لم تواجه له مثيلا منذ نشأتها، فإن سلطة الجيش الوطني القائمة استطاعت بسند شعبي قوي أن تُبقي على وجود هذه الدولة. ولو لا أن الدولة السودانية ظلت تتمتع بكافة مقومات الدولة الحديثة لأتت هذه الهجمة على بنيانها من القواعد ولانهارت الدولة في أسابيع قليلة من شدة مكر المؤامرة واحكامها. فالدولة الحديثة تعرف في العلوم السياسية بأنها منطقة جغرافية مُحددة من الأرض يسكنها شعب ضارب الجذور، وتحكمها حكومة شرعية، خالية من أي سيطرة خارجية، وتمارس سيادتها داخل هذا الحيز الجغرافي. ومع استهداف العاصمة القومية وتحويلها لساحة قتال، لم تتوقف الدولة عن تسيير أمورها، فكانت هناك العديد من المدن التي يمكن أن تصبح مقرا مؤقتا للسلطة المركزية، فكانت هناك مدينة بورتسودان في شرق البلاد ببنيتها التحتية ومطارها الدولي فضلا عن الميناء البحري المطل على أهم الممرات البحرية الدولية الإستراتيجية وهو البحر الأحمر. ومضت البعثات الدبلوماسية السودانية حول العالم تؤدي مهامها المنوطة بها. وتمكن قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة من القيام بعدة جولات خارجية بما في ذلك مخاطبة الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك. وساهمت هذه الجولات في ترسيخ الوضع الدولي السياسي للدولة السودانية وتأكيد حضورها وفعاليتها.

لقد ظل استهداف الدولة السودانية يتخذ أشكالا مختلفة حسب طبيعة النظام القائم؛ وشمل ذلك العقوبات الاقتصادية والسياسية والعسكرية وإستراتيجية شد الأطراف وتفجير علاقات الجوار الجغرافي، ثم عبر سرقة الثورات الشعبية أو وأدها أو تغيير مساراتها وكان ذلك أمرا حاصلا في الثورة التي يُعتقد على نطاق واسع أنها مصنوعة وهي التي أطاحت بنظام عمر البشير في أبريل 2019. فكان اليقين يقطع الشك في أن كثيرا من الأحداث يحركها من أطلقوا ما يسمى بنظرية الفوضى الخلاقة. فقد تحولت بعض الثورات ليس في السودان فحسب وإنما في العديد من الدول المستهدفة إلى حالة فوضوية دائمة. ومصطلح (الفوضى الخلاقة) صمم في معهد (أمريكان انتربرايز) وهو قلعة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، ويلخص المصطلح إستراتيجية كاملة أعدت للمنطقة العربية، تهدف إلى إجراء (حملة طويلة من الهندسة السياسية والاجتماعية) تفرض بالقوة. يقول مايكل ليدن، العضو البارز في المعهد: «إن الوقت قد حان لكي تصدر الثورة الاجتماعية من أجل إعادة صياغة المنطقة العربية ليس عبر تغيير النظم فقط، بل والجغرافية السياسية كذلك، انطلاقاً من رؤية خاصة تقود إلى (تصميم جديد لبناء مختلف).

ومع انتشار الفوضى السياسية والأمنية عقب التغيير السياسي في أبريل 2019 قالت ناشطة سياسية سودانية اشتهرت ببث مقاطع صوتية عبر وسائل التواصل الاجتماعي في أحد تسجيلاتها وهي تخاطب السودانيين: «علينا أن نودع بعضنا فلا ندري فقد لا نلتقي في القريب كسودانيين يضمن الوطن بحدوده المعروفة». وعلى الرغم من أن حديث تلك الناشطة كان نوعا من الفن المسرحي التراجيدي أو الكاريكاتور الصوتي الساخر، إلا أن ما ذهبت إليه كان بسبب حالة عبثية عاشتها البلاد حيث بدت الدولة للمشفقين حينها، غائبة وفاقدة للسيطرة على مجمل الأوضاع. كانت ما سُميت بحكومة الثورة برئاسة عبد الله حمدوك غارقة في وحل هشاشة سياسية وفشلت في تكوين المؤسسات الرسمية والشعبية، وعجزت عن اجتراح صيغة توافقية بين القوى الاجتماعية والسياسية لتنمية الولاء القومي على حساب الولاء الجزئي والقبلي في سياسات تعليمية وإعلامية متفق عليها، وفي التوافق على قيود فاعلة للحيلولة دون نفوذ الجهوية والعصبية السياسية في مؤسسات الدولة. بل أكثر من ذلك من خلال ممارسة غير رشيدة خرجت عن الأطر القانونية كتجيير السيادة للغريب، من خلال دعوة حمدوك لبعثة أممية بلا سند شرعي أو دستوري، فعاث رئيس البعثة فولكر بيتريس فسادا وتفريقا بين أبناء الوطن وشكَّل حكومة موازية أشبه بحكومة الاستعمار البريطاني.

اليوم ومع قرب انجلاء معركة إنقاذ الدولة السودانية لصاح الجيش الوطني، لابد من خطة طوارئ سياسية وطنيّة لخلق رؤية سياسية وطنية تشمل كل المستويات الداخلية والدولية لترسيخ القرار الوطني الحر المستقل والسيادة على التراب الوطني. إنّ المبادئ السياسية ومصالح الشعوب مترابطة ولا يمكن الفصل بينها على الإطلاق، وهي مجموعة الأهداف والقواعد والأسُس التي تتحدّد على أساسها السياسة العامة. مع الأخذ في الاعتبار أن يتحلى الرجل السياسي وهو لاعب رئيسي بالوطنية والوعي المدرك لحجم المؤامرة على السودان.

ولعل الهدف الأسمى للسلطة السياسية بناء وتعضيد مقومات الدولة القوية والمؤثرة، ومقومات الدول القوية تتمثل في التوغل بالتساوي في كامل التراب الوطني لفرض حكمها وسلطتها عليه وعلى المناطق الجغرافية التابعة لها. والعمل على استقلالية الدولة عن الجهات الفاعلة غير الحكومية، وممارسة السلطة الداخلية بطريقة مُستقلة عن المجموعات الاجتماعية. واعتماد الدولة على المهنية، وقدرتها مؤسسيًّا على تنفيذ السياسات العامة. هذا فضلا عن فرض سيادة القانون على إقليمها بالكامل. وبالتالي امتلاك الدولة قدرة واسعة لتنفيذ نظامها السياسي العام، واستثمار مواردها البشرية والاقتصادية.

د. ياسر محجوب الحسين – الشرق القطرية

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى