الكاتب «الرصين» حين يُدون
سأكون ممتناً جداً لأى باحث جاد يستطيع أن ينجز بحثاً موثوقاً يتعلق بمقارنة ما يكتبه كُتاب الصحف والكتب والدوريات وما يقوله المعلقون والمحللون على الفضائيات من جانب، وما يدونونه بأنفسهم على وسائط «التواصل الاجتماعى» من جانب آخر.
ولحين وجود مثل هذا البحث، الذى أحسبه مطلوباً وضرورياً، سأجازف بطرح ما توصلت إليه من انطباعات فى هذا الصدد، وهى انطباعات تكونت لدىّ جراء ملاحظة عميقة لما يكتبه ويقوله عدد من الكُتاب والمحللين المميزين فى وسائل الإعلام «التقليدية»، وما يكتبونه بأنفسهم على صفحات حساباتهم الخاصة فى وسائل «التواصل الاجتماعى».
فأحد هؤلاء -مثلاً- ينتمى إلى فصيل الكُتاب المبدعين، الذين يمتلكون رؤية ساخرة وعميقة فى آن، تعززها قدرات كتابة جذابة، ويتسم بغزارة الإنتاج، ويحتل مكانة مميزة بين أقرانه، ويكتب فى عديد الصحف، فضلاً عن إصداره للكتب المميزة بوتيرة منتظمة، لكنه يكتب على حساباته فى «السوشيال ميديا» كلاماً نابياً، ويحرّض على الكراهية، ويفرز زملاءه موضحاً من منهم «وطنى» ومن منهم «خائن وعميل».
لا أفهم تلك الازدواجية التى يتمكن من خلالها مثل هذا الكاتب من مخاطبة العموم بطريقتين مختلفتين اختلافاً جذرياً، وكأنما هناك شخصان يتبادلان الأدوار؛ أولهما منضبط ورصين وشديد الالتزام بقواعد الكتابة، وثانيهما منفلت ومتهور، ولغته غارقة فى البذاءة والابتذال.
ومن بين الكُتاب الذين لفتوا انتباهى فى هذا الصدد أيضاً أحد المُنظِّرين الذين ينتمون إلى الوسط الأكاديمى، ويحمل درجة علمية رفيعة، ولديه كتب مهمة، كما ينشر دراسات وأبحاثاً مميزة، لكنه على حسابه فى إحدى منصات «السوشيال ميديا» لا يتورع عن استخدام الألفاظ المبتذلة، وتوجيه الشتائم للآخرين، وتحقيرهم، واتهامهم بالجهل أو النصب، لمجرد اختلافهم معه فى آرائه، التى يقتضى الإنصاف القول إنها قد تكون جيدة ومقنعة فى عديد الأحيان.
وثمة كاتب ثالث، عُرف بانتماء سياسى محدد، وبمواقف «صلبة» تجاه قضايا رئيسية فى العالم العربى، كما يُقدَّم بوصفه أحد المنتمين إلى جماعة دينية، لها تنظيم حركى، وتجربة سياسية عريضة، كما أنه حظى فى فترات بمناصب رسمية، حين كانت جماعته فى سدة السلطة أو مشاركة فيها.
ما يفعله هذا الكاتب فى الوسائط «التقليدية» يبدو أكثر استيفاء لإجراءات الموضوعية، وأقل تورطاً فى الجموح والعبث، رغم ما نعرفه عن انحيازه السياسى والفكرى البنيوى، لكن ما يفعله على وسائط «السوشيال ميديا» يبدو كارثياً بامتياز. فهو يُسخّر حساباته لنقل وتدبيج بعض التدوينات والفيديوهات المزورة، والأقوال المفبركة، والمعلومات الزائفة، ويجتهد باطراد فى إشاعة التضليل، لنصرة فصيله وفكرته التى يدافع عنها، وحين يتم كشف كذب ما يدّعيه بالأدلة الدامغة، فإنه لا يعتذر أبداً، وإنما يهرب إلى ادعاء جديد.
يبدو أن ما قاله أومبرتو إيكو عن أن تلك الوسائط تعزز الحماقة صحيح، ويبدو أيضاً أن ما قاله فيديا ناثان عن أنها قد تسهم فى تقويض الديمقراطية حقيقى، ويبدو كذلك أن ما قاله جارون لانييه عن أنها تُغرى بالتزييف والتضليل يصعب دحضه.
سيمكن فهم ذلك بطبيعة الحال عندما نتحدث عن المستخدمين العاديين لتلك الوسائط، حيث تمنحهم قدرات غير محدودة على التخفى، أو الإفلات من المسئولية، أو ممارسة الشطط من دون عواقب واضحة، لكن كيف سنفهم ذلك حين نتحدث عن شخصيات معروفة ولديها مكانة وسوية علمية أو فكرية محترمة فى الوسط الإعلامى «التقليدى» وفى المجال العام.
حبذا لو اجتهد علماء الاتصال والإعلام وعلم النفس فى محاولات جادة لتقصِّى هذه الازدواجية الخطيرة، التى تجعل لشخص واحد هويتين؛ إحداهما تبدو رصينة وعاقلة ومُحتشمة أيضاً فى الوسط «التقليدى»، وثانيتهما تظهر أسوأ ما فيه من انفلاتات وتهور وتدن أخلاقى فى الوسط «السوشيالى».
سيقول البعض إن هذه الازدواجية تظهر لأن وسائط الإعلام «التقليدية» تُلزم المصادر بأنماط أداء معيارية، أو إن الرقابة التى تُمارَس على هذه الوسائط تُنقى ما يُنشر ويذاع عبرها من التجاوزات والانتهاكات؛ وفى هذا التسويغ إدانة صادمة لهؤلاء، وتأكيد على أن سويتهم الأصلية منفلتة ومعطوبة، وأنهم غير مؤهلين لمخاطبة العموم، وأن جزءاً كبيراً من هويتهم، التى يدركها جمهورهم، صنعته قيود الوسائط «التقليدية»، التى ما إن زالت فى الوسيط «السوشيالى» حتى ظهروا على حقيقتهم.. صبية يتهاوشون فى الحارات.
إن شيوع البذاءة، والتمييز، والكراهية، والتحريض على العنف، وتخوين الآخرين واتهامهم بالعمالة، أضحى من سمات التفاعلات الدائرة على الوسائط الجديدة بامتياز، لكن الجديد هنا أن تلك الوسائط أيضاً كشفت كثيرين من المُدّعين، الذين وارت الوسائط «التقليدية» عوارهم لعقود.
ياسر عبدالعزيز – الوطن نيوز