أبرز العناوينتحقيقات وتقارير

نعمة أم نقمة .. هل تحول الزيادة السكانية أحلام الهند الاقتصادية إلى واقع؟

عبر التاريخ كانت الصين دائما دولة مكتظة بالسكان، ودائما ما افتخرت بأنها الدولة الأكثر سكانا على وجه الأرض، لكن الآن للمرة الأولى منذ منتصف القرن الـ18 تفقد الصين مكانتها كأكثر دول العالم سكانا.

ووفقا لتقديرات الأمم المتحدة، احتلت الهند منذ منتصف هذا العام المرتبة الأولى ضمن قائمة الدول الأكثر سكانا في العالم، وأيضا بحسب تقديرات المنظمة الدولية وصل عدد سكان الهند إلى 1429 مليون نسمة في منتصف عام 2023، ما يزيد قليلا على عدد سكان الصين البالغ 1426 مليون نسمة.

وبحسب الخبراء في مجال الدراسات السكانية، فإن الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 25 عاما يمثلون أكثر من 40 في المائة من سكان الهند، في وقت تتزايد فيه معدلات الشيخوخة وبسرعة في الصين والولايات المتحدة الأمريكية.

لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فالهند كانت الأسرع نموا بين أكبر خمسة اقتصادات في العالم العام الماضي، وتتوقع مؤسسة جولدمان ساكس للأبحاث أن تصبح الهند ثاني أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2075، بينما تشير تقديرات بنك مورجان ستانلي إلى أن الناتج المحلي الإجمالي في الهند من المرجح أن يتضاعف عن المستويات الحالية في عام 2031، بينما تتوقع وكالة التصنيف الائتماني ستاندرد آند بورز أن تصبح الهند أكبر ثالث اقتصاد في العالم بحلول عام 2030 متجاوزة اليابان وألمانيا. ويتمنى كثير من القادة في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، أن تتمكن الهند من اللحاق بالصين اقتصاديا، والظهور كقوة اقتصادية موازية، لكن قضية الزيادة السكانية في الهند تثير جدلا حول قدرتها على أن تحول الاحلام والأمنيات إلى واقع.

ومنذ عدة أعوام، كانت وجهة النظر الرسمية والسائدة بين النخبة الهندية أن العدد الكبير والمتزايد للسكان عائق أمام التنمية ينتقص منها ولا يضيف إليها، ولا يعد رصيدا يمكن التعويل عليه، لكن وجهة النظر تلك لا تجد الآن القبول نفسه الذي حظيت به في الماضي، إذ يزعم كثير من المسؤولين والاقتصاديين أن نسبة الشباب من إجمالي السكان تمنح البلاد ميزة على الصين، وهي ميزة ستستمر لعقود من الزمن، خاصة أن عدد سكان الهند سيصل إلى الذروة في عام 2064 عندما يبلغ 1.7 مليار نسمة.
هنا يقول لـ”الاقتصادية” البروفيسور إم. سي. أجروال أستاذ علم الدراسات السكانية في جامعة يورك الإنجليزية، “إن التطورات السكانية في الصين والهند تشير إلى أن الصين ستتقدم قبل أن تصبح غنية، أي أنها ستكون أكثر ثراء عندما تكون في الشيخوخة، إذ سيمثل الشباب نسبة منخفضة من إجمالي السكان، أما الهند فسيكون لديها وقت كاف لتصبح غنية قبل أن تتقدم في السن، حيث إن إرث سياسة الطفل الواحد يجعل الصين تواجه ما يعرف بـ1-2-4، أي شخص بالغ واحد عليه رعاية أبوين مسنين وأربعة أجداد، وهذا لا يحدث في الهند”. ويستدرك قائلا “هذا لا يعني أن الصورة وردية بالنسبة إلى الهند، فقوة الإنفاق الحقيقية لا تزال تقع إلى حد كبير في أيدي قلة، ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الهند بلغ عام 2021 نحو 2257 دولارا مقابل 12565 دولارا في الصين”، وفقا للبنك الدولي.

باختصار، يرى عديد من الخبراء في مجال الدراسات السكانية أن الهند لكي تحقق أحلامها الاقتصادية، يتعين عليها أن تتبنى سياسة مرنة قادرة على استيعاب الضغط السكاني، بما في ذلك التفاوت في الدخل بين المتعلمين والأميين، وبين المدن الساحلية التي تتمتع بنمو اقتصادي ملحوظ ومدن شمال الهند المكتظة بالسكان والأكثر فقرا.
ومنذ شروع الهند في عملية الإصلاح الاقتصادي على يد ناراسيمها راو رئيس الوزراء السابق عام 1991، خطت الهند خطوات واسعة للحد من الفقر المدقع، وأشار البنك الدولي إلى أن 10 في المائة فقط من السكان كانوا في حالة من الفقر المدقع عام 2019 أي 138 مليون نسمة تقريبا يعيشون على أقل من 2.15 دولار يوميا، بينما كان يمكن أن يصل هذا العدد إلى 700 مليون شخص أي 50 في المائة من السكان إذا ظل معدل الفقر كما كان عام 1987. والعام الماضي تفوقت الهند على المملكة المتحدة لتصبح خامس اقتصاد في العالم، كما أن قوة العمل في الهند تنمو بسرعة أكبر من نمو إجمالي السكان، وهو ما يمكن أن يترجم إلى ارتفاع معدلات الادخار والاستثمار والنمو الاقتصادي السريع على غرار ما حدث في كوريا الجنوبية وتايوان.

إلا أن الدكتورة روزي نيكولاس أستاذة الدراسات الآسيوية في جامعة لندن، ذكرت لـ”الاقتصادية”، أن “الاستهلاك وليس الاستثمار يلعب دورا رئيسا في دفع النمو في الهند، وتظل معدلات البطالة المرتفعة تشكل تحديا هائلا، إذ بلغ معدل البطالة 7.8 في المائة في مارس الماضي، وخلال الأعوام الأربعة الماضية ظل عند 8 في المائة، وهذا المعدل يثير قلق كثير من الاقتصاديين، نظرا لأن معدل المشاركة في قوة العمل منخفض للغاية، فنحو 24 في المائة من النساء في الهند يعملن أو يبحثن عن عمل، بينما تزيد تلك النسبة في الصين على 60 في المائة، وهي تقريبا النسبة نفسها في الولايات المتحدة”. وأضافت “ثلاثة أرباع سكان الهند فقط يعرفون القراءة والكتابة، ومن ثم فإن المشهد العام يجعل الهند لديها أعداد كبيرة من خريجي الجامعات الذين يعيشون وسط ملايين من قوة العمل الأمية، وهذا يوجد فوارق اجتماعية ملحوظة انعكست على التنمية الإقليمية، فبعض ولايات جنوب الهند توازي البرازيل في تقدمها، بينما ولايات الشمال لا تتجاوز معدل التنمية السائد في كمبوديا”.

مع هذا يرى بعض الخبراء أن زيادة السكان في الهند أدت إلى تحقيق مستويات عالية من النمو الاقتصادي، فمنذ عام 2006 شهد الناتج المحلي الإجمالي في الهند زيادة في المتوسط بنسبة 6.12 في المائة، ويرجع ذلك إلى أن عدد سكان الهند ارتفع منذ عام 2006 بنحو 250 مليون نسمة، وبينما تنمو الاقتصادات الناشئة بين 2 و3 في المائة سنويا فإن الهند تحقق نموا أعلى من ذلك بكثير، ما يشير إلى إمكاناتها الاقتصادية.

ومن هذا المنطلق، ستكون إضافة مزيد من السكان إلى سوق العمل إضافة قوية للاقتصادات وعامل جذب، خاصة للشركات الدولية التي باتت تنتج كمية متزايدة من سلعها في الهند.
وحددت شركة أبل على سبيل المثال هدفا لها زيادة إنتاج هاتف آيفون الذكي في الهند من 6 في المائة حاليا إلى 25 في المائة بحلول عام 2025، ويتوقع أن يقوم مزيد من الشركات العالمية بتبني خطوات مشابهة، خاصة في ضوء توجهات غربية بنقل مزيد من مصانعها إلى خارج الصين. ويمكن لتلك الشركات توفير مزيد من فرص العمل، ما يزيد من الاستهلاك المحلي ومن ثم معدلات النمو، خاصة أن الإنفاق الاستهلاكي الخاص يمثل نحو 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في الهند.
بدروه، يتبنى مايكل جيمس الباحث الاقتصادي في قضايا الاقتصادات الناشئة، وجهة نظر ترى أن الزيادة السكانية ليست هي العامل الذي يعزز المكانة الاقتصادية أو يعوقها، إنما جودة القوة العاملة وتدريبها هي العامل الأساسي الذي يمكن من خلاله الحكم على أثر الزيادة السكانية في الاقتصاد الهندي.

وذكر لـ”الاقتصادية” أن “الهند تضم أكبر عدد من الشباب في العالم، إذ يبلغ عددهم 254 مليون نسمة تراوح أعمارهم بين 15 و24 عاما، ويمكن لتلك القوى أن تدفع النمو الاقتصادي، لكنها يمكن أن تصبح أيضا مصدرا للاضطرابات الاجتماعية وعدم الاستقرار، ومن ثم عاملا طاردا للاستثمارات الأجنبية أو عاملا منفرا لرؤوس الأموال الأجنبية”.
ويستدرك “على الهند أن تعمل على توسيع الفرص التعليمية للاستفادة من المزايا التي تتمتع بها، فواحدة فقط من كل خمس نساء هنديات تعمل في وظائف رسيمة، ويمكن أن تضيف زيادة مشاركة المرأة في القوى العاملة 1.5 في المائة إلى الناتج الاقتصادي الهندي”. مع هذا، يرى جيمس أن الزيادة السكانية تجعل الهند تتمتع بمعروض وفير من الايدي العاملة بأجور زهيدة، وبالتالي تتحول إلى قبلة للاستثمارات الأجنبية التي تتطلع إلى الاستفادة من قدرات التصنيع المتنامية في الهند، كما أن زيادة السكان ستساعد من وجهة نظره على زيادة الاستهلاك المحلي، بما يمكن الاقتصاد الوطني من التغلب على أي صدمات خارجية.

وتبوأت الهند المركز الأول عالميا من حيث عدد السكان، فإلى أي مدى يعد ذلك نعمة أم نقمة؟ سيتوقف على طبيعة السياسات الحكومية للنهوض بمستوى “جودة” القوى العاملة، ولن يتوقف الأمر على التعليم فحسب، فنوعية التعليم ستلعب دورا مهما في الإجابة عن تحول الكثافة السكانية إلى نعمة أو نقمة. وعديد من الشركات الدولية، على الرغم من العدد الكبير من السكان، ترى أن الهند تفتقر إلى القوى العاملة الماهرة القادرة على تولي الأدوار والوظائف الحديثة، بحيث بات التوظيف تحديا بالنسبة إلى عديد من الشركات الدولية، خاصة أن الطابع التعليمي للكليات الهندية ينصب في الأساس على التعليم النظري أكثر منه على التعليم التجريبي. ومن ثم فإن الحصول على المهارات الضرورية لسوق العمل سيلعب الدور الرئيس لضمان النهوض الاقتصادي في الهند، الذي يعد شرطا ضروريا للحيلولة دون انزلاق ملايين من المواطنين إلى الفقر المدقع.

الاقتصداية

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى