طال انتظار السودانيين للعثور على حل يأتيهم من الخارج، فقد مر على الحرب المشتعلة بين قوات الجيش والدعم السريع نحو خمسة أشهر وكل التحركات والمبادرات والوساطات لم تفلح فى وقفها أو الحد من روافدها السلبية، فما بالنا بالدخول فى عملية سياسية تعيد تصويب المسارات الخاطئة؟
وضع طرفا الصراع العسكرى وغالبية القوى المدنية أملهم على الوساطة السعودية الأمريكية واجتماعاتها فى جدة ثم تجمدت المفاوضات، وعلى الاتحاد الإفريقى فعصفت به أزمة بينه وبين وزارة الخارجية السودانية، وعلى منظمة إيجاد فلم تسلم من المناوشات مع وزارة الخارجية أيضا، وعلى قمة دول الجوار فى القاهرة فواجهت تحديات عديدة للتوفيق بين أعضائها.
فى خضم كل هذه الرهانات، نسى السودانيون ثقتهم فى أنفسهم للبحث عن وسيلة لوقف إطلاق النار، وترتيب الأجواء للعودة إلى العملية السياسية، لأنهم يعلمون ما يكتنف هذه الحرب من تشابكات إقليمية ودولية وأن مفاتيح وقفها فى يد قوى خارجية، كما أن خلافاتهم كبيرة هذه المرة وتحول دون الجلوس على طاولة واحدة وإجراء محادثات مباشرة، فكل طرف يعتقد أن لديه مقومات كافية تمكنه من الانتصار.
كلما طال أمد الحرب زادت تعقدياتها، وكلما تضاعف عدد الضحايا بعدت المسافات بين الأطياف السودانية، لذلك على القوى الوطنية نبذ خلافاتهم السياسية ومد خيوط الحوار لأجل التوصل لصيغة مقبولة تضع حدا لهذه المعارك العبثية، فالجولات التى تقوم بها قوى الحرية والتغيير بمشاربها المختلفة لم تتحلل من غالبية رؤاها القديمة، وإن حاول بعضها الإيحاء بأنه لا يقف مع طرف ضد آخر، فالمطلوب التفكير فى تصورات عملية داخلية.
يبدو انتظار الحصول على روشتة خارجية أمرا يزداد صعوبة مع وجود أزمات إقليمية لا تقل ألما عما يحدث فى السودان، وفى ظل انشغال القوى المؤثرة بقضايا حيوية وانخراطها فى إعادة رسم بعض الخرائط الإقليمية، وعدم وجود بوادر ليونة من الطرفين المتصارعين تشجع على إمكانية التوصل إلى صيغة تنهى الحرب، وهو ما يفتح المجال نحو استمرارها حتى يتمكن أحدهما من استنزاف الآخر والقضاء عليه، أو تتحول الحرب إلى نمط حياة يتعايش معه السودانيون.
تشير معادلة الحرب الهشة الممتدة فى كل من الخرطوم ودارفور وكردفان إلى تواصلها حتى تأكل ما تبقى من الأخضر واليابس فى ربوع السودان، فالمناطق التى تعتقد أنها هادئة أو يمكن أن تظل بعيدة عن نيران الحرب قد تنجرف إليها سريعا نتيجة اتساع نطاق المعارك، ومحاولة كل طرف اللحاق بالآخر فى سباق عسكرى ربما لا يقف عند حدود معينة، ومن السهل أن يفضى إلى تفتيت البلاد.
يجب أن يستنفر شبح الحرب الأهلية والتقسيم الذى يلوح فى الأفق كل القوى الوطنية للعمل على إيجاد الآلية اللازمة للخروج من المأزق، والتوقف عن انتظار المساعدة الخارجية إلى ما لا نهاية، فجزء كبير من تدخلات بعض الدول محكوم بتوازنات قوى وحسابات أطراف من مصلحتها أن تستمر الحرب فترة طويلة، ليتم إعادة رسم خريطة السودان بطريقة تخدم أهداف بعض القوى التى تتهاون فى الضغط لوقفها سريعا.
لعل ما ظهر من ملامح ازدواجية فى مواقف المجتمع الدولى يستنهض همة السودانيين ويجبرهم على الاعتماد على أنفسهم أولا، ففى كل أزمات بلدهم درجوا على انتظار الحل الخارجى، وكان يأتى مشوها أو مصحوبا بأجندات لا تحقق مصالح السودان، ومعظم الوساطات التى حدثت فى صراعات ونزاعات وأزمات سابقة لم تكن نتائجها تأتى فى صالح مواطنيه، بل تصب فى جيوب فئة أو جماعة أو حركة لها مطالب سياسية ومناطقية، وكان المتضرر دوما منها السودان الكبير.
يمكن أن يحل رهان القوى السودانية الحية على ما يملكونه من أدوات كثيرا من ألغاز الأزمة الحالية، فهناك نخب وطنية لديها رؤى جادة يمكن الالتفاف عليها، مطلوب توفير اجماع شعبى متين لها، لأن الدوران فى حلقات الحرب مدمر، وانتظار تحرك يأتى من هنا أو هناك مسألة قاسية على معظم السودانيين، بينما الحرب تحصد أرواح العشرات كل يوم.
تستطيع القوى السودانية المنتشرة فى المنطقة، إذا خلصت نواياها، أن تقدم أفكارا جيدة، وتوفر غطاء خارجيا لها، فهناك الكثير من النخب التى لها سمعة دولية لن تتوانى عن خدمة بلدها، ويمكنها أن تخلف توقعات من يرون أن السودانيين يعتمدون فقط على من يقدم لهم روشتة أو حلا جاهزا أو وصفة يمكن اتباعها، بصرف النظر عما تحمل تدخلات الآخرين من عواقب وخيمة.
يمكن أن تصبح التحديات الكبيرة التى تواجهها الجهود الخارجية، الإفريقية والعربية والدولية، دافعا حقيقيا للقوى الوطنية لنبذ خلافاتها والتغاضى عن حساباتها الشخصية والبحث عن رؤية تخرج من رحم المعاناة، لأن الحرب دخلت طورا قد يصعب السيطرة عليه لاحقا، فكل طرف يريد أن يحسمها بالطريقة التى تحقق أهدافه ولو جاءت ضد مصالح سودانيين لا يملكون حق تقرير مصيرهم الآن.
يؤدى استنفار القوى الوطنية بمشاربها المختلفة إلى إيجاد حالة فى السودان لممارسة نوع من الضغوط المادية والمعنوية على الطرفين المتصارعين، وتسحب من كليهما ورقة المتاجرة بأن جزءا كبيرا من المواطنين يقفون فى صفهما، فهذه اللحظة يجب أن يرتفع فيها صوت الحكمة، فأقصى ما يمكن أن تمارسه الجهات الخارجية فرض مزيد من العقوبات الاقتصادية بعد أن خيمت على الوساطات ظلال سلبية، وبات خيار التدخل الدولى مستبعدا فى ظل ما يكتنفه من عراقيل متعددة، ولذلك فالأمل لا يزال كامنا فى استنهاض قدرات السودانيين الخاملة.
محمد ابوالفضل – بوابة الأهرام

