آراءأبرز العناوين

الأزمة السودانية.. مربع المزايدات

عوضا على أن تفتح المبادرة التي طرحها الأسبوع الماضي نائب رئيس مجلس السيادة السوداني مالك عقار وأسماها خارطة طريق لوقف الحرب آفاقا للحل، بدت مربكة للمشهد السياسي في البلاد؛ فرغم أنها أعطت توصيفا صحيحا لمليشيا الدعم السريع التي فجرت الأوضاع الدموية في 15 ابريل الماضي، حيث وصفتها بالقوات المتمردة، وألا سبيل لوجود جيشين في دولة واحدة، في مقابل ذلك كأنما فتحت مجالا لإعادة إنتاج الأزمة السياسية عبر تكريس دكتاتورية مدنية واحتكار العمل السياسي وعزل الآخر. وبذلك تنعش آمال قوى سياسية معزولة تفتقر للسند الشعبي للعودة وتسيّد المشهد السياسي من جديد استنادا لارتباطاتها الخارجية ودعمها المكشوف للمليشيا المتمردة. كما أنها في ذات الوقت بدت متقاطعة في بعض جوانبها مع مضامين آخر خطاب لقائد الجيش ورئيس مجلس السيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان، الأمر الذي قد يؤثر سلبا على المجهود الحربي سيما وأن الانتصار أضحى في كفة الجيش فيما اتخذت المليشيا وضعية الدفاع. ويخشى المشفقون على الأوضاع في البلاد أن يكون البرهان يتعمد الحديث بلسانين في محاولة لإرضاء كل الأطراف سودانية وغير سودانية، الأمر الذي يدخل مجمل الأوضاع في مستنقع المساومات السياسية فتزيد أمد الحرب. إذ أن المياه الراكدة تحت الجسر لا تحتاج لمجرد إلقاء حجر يثير روائحها الكريهة أكثر مما يحركها؛ فالمطلوب فتح المستنقع من ناحيتين، الأولى تسمح بدخول مياه جديدة بينما يسمح فتح الناحية الأخرى بمرور المياه الآسنة ومن ثمّ تصبح المياه تحت جسر الأزمة صحية ومتجددة.

إن الذي يعقد المشهد السياسي باستمرار ومنذ سقوط نظام الرئيس عمر البشير في ابريل 2019 هو مزايدة جميع القوى السياسية في صراعاتها السياسية، على العداء لأنصار نظام البشير ظنا منها أن ذلك قد يكون كرتا ناجحا في المعارك السياسية. بينما يقول واقع الحال أن النظام السابق عمليا خارج المعادلة السياسية بل إن أنصاره غير راغبين في لعب أي دور في الفترة الانتقالية تحديدا. كما أن الحديث عن أنصار النظام السابق باعتبارهم كتلة واحدة غير دقيق، لأن مسيرة 30 عاما وهي عمره قد أوجدت طيفا واسعا من السياسيين الذين تعاملوا وتحالفوا معه على فترات مختلفة بل أن من يزايدون اليوم عليه كانوا أقرب إليه من بعض أنصاره الذين اختلفوا معه على كثير من سياساته.

ولعل مالك عقار صاحب المبادرة الحالية يعتبر من أبرز من تعامل مع نظام البشير، حاكما لإقليم النيل الأزرق ووزيرا اتحاديا وجزءًا من تجربة حكمهم. وقد خصص عقار حيزا غير يسير من طرحه للهجوم على ما أسماهم بالإسلاميين في إشارة لأنصار نظام البشير، واصفًا تجربتهم بـ»البضاعة المنتهية الصلاحية». ولعل تجربة الأربع سنوات التي أعقبت سقوط البشير والتي شهدت تدهورا غير مسبوق في جميع مناحي حياة السودانيين سياسيا واقتصاديا لينتهي الأمر بحرب لا تبقي ولا تذر، قد أثبتت أن الهجوم وحده على النظام السابق هو بالأحرى بضاعة منتهية الصلاحية، ما لم تستطع القوى السياسية تقديم الأفضل من تجربة الحكم السابق.

وعقار مثله مثل بقية السياسيين من قادة الحركات المتمرد السابقة له سجل ممتد من الاخفاق السياسي حتى على مستوى حركته وشركائه في التمرد. وسرعان ما ضربت الحركة الشعبية – شمال التي يرأسها عقار خلافات عاصفة خلال السنوات الأخيرة، حين قدم نائبه عبد العزيز الحلو مطلع عام 2017 استقالته. وهي الخطوة التي عدّها عقار بمثابة «انقلاب داخلي غير معلن». وهكذا تحولت الحركة إلى كيانين يقودهما كل من الحلو وعقار. ثم لاحقا انقسم الجزء الخاص بعقار الذي احتفظ بمنصبه في مجلس السيادة، بينما اختار القيادي الآخر ياسر عرمان البقاء في تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير جناح المجلس المركزي. وأعلن عقار أن حركته ليست ضمن «تحالف الحرية والتغيير»، وأن من يشاركون فيه لا يمثلون إلا أنفسهم في إشارة إلى عرمان شريكه السابق الذي أسس كذلك حركة منفصلة. وتجدر الإشارة هنا إلى ان هذه الخلافات انعكست على رد تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، الذي يعتبر عرمان أحد قادته المؤثرين فيه، إذ اعترض على طرح مبادرة عقار تشكيل حكومة مؤقتة لتسيير دولاب الدولة. ولم يلتق التحالف مع عقار إلا في مزايدته على ما أسماهم بأنصار النظام السابق وهجومه عليه.

إن الخطر الأعظم على استقرار البلاد يظل كثرة الحركات والمجموعات المسلحة وتحديها للجيش الوطني ولعبها أدوارا سياسية استنادا لقوتها العسكرية وليس شعبيتها الانتخابية. كذلك لم تتعلم الحركة السياسية المدنية شيئا من تجاربها الفاشلة لأن من أكبر اشكالياتها، الصراع العبثي فيما بينها، وضعف بنيتها الحزبية وغياب المؤسسية في داخلها وكذلك الديمقراطية التي تتأبطها نفاقا.

لكن هل هناك من حل؟ يبدو أن الأمر معقد جدا لكن في أحسن الأحوال قد تكون هناك فرصة لحل ما عبر العودة لدستور 2005 الذي وضع بتوافق كبير لم يشهد السودان مثله في التاريخ الحالي، يمكن على أساسه تكوين مفوضيات الانتخابات والتعداد السكاني خلال فترة انتقالية محكومة بزمن محدد وليست مفتوحة على الاطلاق، لانجاز انتخابات تفرز برلمانا يمكن أن يضع دستورا يتمتع بالقبول الشعبي والتوافق السياسي.

بيد أن التفكير خارج الصندوق وإقرار حل جديد لا سابق له هو الأمر المطلوب، وتلك مهارة بالأساس ترتكز على القدرة على الإبداع. فقبل نحو عام طرح أستاذ جامعي صاحب نشاط فكري معلوم ومميز، اسهاما فكريا مفاده أن الديمقراطية ستقود لمزيد من عدم الاستقرار السياسي والاضطراب المجتمعي، مشيرا إلى أن النهضة الاقتصادية والاستقرار السياسي يمكن أن يتحققا حتى في ظل نظام غير ديمقراطي، مضيفا أن ذلك الأمر ممكن عبر نظام الحزب الواحد مع توسيع قاعدة المشاركة الشعبية وهو ما أطلق عليه نظام (الشمولية الواسعة).

د. ياسر محجوب الحسين – صحيفة الشرق القطرية

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى