تحقيقات وتقارير

إثيوبيا والسودان صراع المصالح بالقرن الأفريقي

لا شك أن ملف الصراع السوداني يحتل مكانة متقدمة من حيث الأهمية للجانب الإثيوبي، لتشابك المصالح المشتركة أمنيا وجغرافيا وسياسيا واقتصاديا وتاريخيا وإثنيا، مثلما أن إثيوبيا تعد الدولة المركزية من الناحية (الجيوسياسية) للسودان، ولاعتبارات أكثر أهمية فإن إثيوبيا هي الدولة المركزية أفريقياً وإقليميا التي تحتضن مقر المنظمة الأكثر فاعلية (الاتحاد الأفريقي)، مثلما أن إثيوبيا هي مقر لمبادرة دول حوض النيل الشرقي التي تضم الدول الثلاث، دولة المنبع إثيوبيا ودولتي المصب مصر والسودان، ويبقي ملف سد النهضة هو الملف الخلافي الأبرز بين الدول الثلاث، مثلما أن قضية ترسيم الحدود بين السودان وإثيوبيا لم تكتمل خاصة في منطقتي الفشقة الكبرى والفشقة الصغرى التي استردت القوات المسلحة 90% منها في الحرب الأخيرة ولم تتم عملية ترسيمها حتي الآن.

على صعيد الحسابات الإقليمية أفريقياً، فإن ارتباط السودان بجوار يجمعه بإثيوبيا وإريتريا شرقاً يضعه في دائرة التفاعلات بمنطقة القرن الأفريقي، وهو ما يعزز من مكانته كلاعب مهم في منطقة الساحل الأفريقي، ومن بين المفارقات اللافتة في المشهد السوداني الحالي، أنه رغم كون الأزمة الحالية هي الأكثر تعقيدا وحدة منذ سقوط البشير في إبريل/ نيسان 2019، فإنها شهدت أدنى مستويات التدخل من جانب القوى الإقليمية من دول جوار السودان مقارنة بمختلف الأزمات السابقة المتعاقبة في الأعوام الأربعة الأخيرة، هذا الاتجاه الذي لم يكن متوقعا لسلوك دول الجوار لكنه لا يعكس عزوفاً من جانب هؤلاء اللاعبين الإقليميين أو تقديرا لمحدودية مصالحهم المتأثرة بما يجري في السودان، وإنما جاء نتيجة مباشرة لمستوى الخطورة المرتفع للأزمة الحالية التي تحمل فرصاً حقيقية لإدخال السودان في حالة من الصراع الداخلي.

لقد جسدت المواقف الإثيوبية بصورة واضحة ما يجري في السودان لحساباتها تجاه الأزمة الحالية وتأثيرها على مآلات الأوضاع المستقبلية على مستوى السودان والإقليم بشكل عام، فقد مرت إثيوبيا بسلسلة من الأحداث الكبرى سياسيا وعسكريا، وهو ما واكب الأوضاع المضطربة في السودان مما كان له انعكاسات مباشرة على موقف الحكومة الإثيوبية من الصراع بين القوات المسلحة السودانية والدعم السريع، فمنذ وصول آبي أحمد للسلطة قبل نحو عام من سقوط الرئيس السابق عمر البشير في السودان في إبريل/نسيان 2019، يمكن القول إن ذلك أبرز عددا من الاتجاهات التي كشفت عن الموقف الإثيوبي تجاه تفاعلات السودان فيما يلي:

الميل الإثيوبي الواضح لقوى الحرية والتغيير برأي العديد من المراقبين على حساب الجيش السوداني، ومحاولة استغلال الوضع المتأزم في البلاد بهدف خلق دور إقليمي لإثيوبيا، على نحو ما ظهر في الحراك الإثيوبي الذي تعثر في إحداث توافق سياسي بين الطرفين المدني والعسكري بعد سقوط الإنقاذ، وذلك خلال الفترة بين فض اعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة في الثالث من يونيو/حزيران 2019، وحتى توقيع الوثيقة الدستورية في 17 أغسطس/آب 2019، وفي تلك الفترة حاول رئيس الوزراء الإثيوبي الاستفادة من تفويض (إيغاد) التي كان يرأسها بغية التوصل لاتفاق مع الأطراف السودانية.

تصاعد الصدام بين القوات المسلحة السودانية والجانب الإثيوبي حول منطقتي “الفشقة” الكبرى والصغرى الذي يعود لتسعينيات القرن العشرين، وهو ما نتج عنه سلسلة من المواجهات المسلحة تمكن فيها الجيش من استرداد نحو 90% من الأراضي السودانية، لقد فجرت المواجهات المسلحة بين الطرفين حالة من العداء بينهما، خاصة في ظل خطاب عدائي للحكومة الإثيوبية بأن التحركات العسكرية السودانية جاءت مستغلة للحرب في إقليم تيغراي، وهي خطوة لإعادة تموضعها تبعدها عن الخرطوم وتقربها أكثر من القاهرة.

عد الكثير من المراقبين التقارب الإثيوبي المطرد لقائد قوات الدعم السريع الذي زار أديس أبابا للمرة الأولى في يونيو/حزيران 2020، ثم في يناير/ كانون الثاني 2022، وههما الزيارتان اللتان كانتا غير منسجمتين مع مواقف الحكومة السودانية بحسب الكثيرين في حدها الأدنى من التنسيق مع أي من شركاء الحكم العسكريين والمدنيين في السودان.

مارست إثيوبيا المزيد من الضغوط على السودان إعلاميا ودبلوماسيا للتأثير على المواقف السودانية المرنة من سد النهضة والمتماهية مع الموقف المصري (بحسب إثيوبيا) من الملف إبان حكومة ما بعد التغيير، وتوالي الاتهامات للسودان بدعم جبهة تحرير تيغراي بعد تفجر الصراع في الإقليم في نوفمبر/تشرين الثاني 2020.

الاتجاهات الأربعة تجاه السودان انعكست بوضوح في الموقف الإثيوبي من الأزمة السودانية، ورغم امتلاك الحكومة الإثيوبية مصلحة واضحة في انتصار قوات الدعم السريع أو على الأقل بقائها لاعباً رئيسياً في المشهد السوداني عسكرياً وسياسياً، لم تتمكن إثيوبيا من تقديم أي دعم ملموس لقوات الدعم السريع الأمر الذي يمكن إرجاعه لعدد من الأسباب أبرزها:
التفوق الميداني الواضح من اليوم الأول للقوات المسلحة السودانية، خاصة في أقاليم شرق السودان ذات الحدود المشتركة مع إثيوبيا والتي كانت الأسبق في إعلان إحكام القوات المسلحة على مقار الدعم السريع الذي لا يزال يتم التعامل معه باعتباره كيانا “غريبا” عن ولايات الشرق.
وقوع الاشتباكات الأخيرة على مقربة من الهدنة القائمة في العلاقات بين آبي أحمد وعبد الفتاح البرهان منذ زيارته للخرطوم نهاية يناير/كانون الثاني 2023 والتي اتفق خلالها على احتواء القضايا الخلافية بين الجانبين عبر الحوار.
الرغبة الإثيوبية في تجنب إثارة المزيد من التوجهات الشعبية العدائية لدى قطاعات سودانية عديدة، مما قد ينعكس سلباً على مستقبل العلاقات في مرحلة ما بعد انتهاء المواجهة العسكرية على نحو ما تجسد في النفي السريع للحكومة الإثيوبية للأنباء التي أشارت لتمدد عسكري إثيوبي جديد في الفشقة الصغرى استغلالاً للوضع المضطرب في السودان.
الخشية الإثيوبية من إثارة رد فعل أميركي سلبي، خاصة بعد زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن لأديس أبابا في منتصف مارس/آذار 2023، وهي الزيارة التي شهدت تشديد الضغوط الأميركية على حكومة آبي أحمد بإحراز تقدم في مسار السلام الهش مع جبهة تحرير تيغراي.

من كل ما سبق، يبدو أن الموقف الإثيوبي على وجه الخصوص من الأزمة السودانية قد غلب عليه التحفظ والتحرك وفق خطوات محدودة محسوبة، وهو ما لا يمكن قراءته باعتباره مؤشرا على تراجع الاهتمام الإثيوبي بالسودان، بقدر ما يشير لإرجاء عودة النشاط الإثيوبي على الساحة السودانية في المرحلة التالية للصراع لحتمية العلاقات المتشابكة بين البلدين الجارين سياسيا واقتصاديا وحتى اجتماعيا.

في ظل الملفات المتحركة والمصالح المتشابكة بين الطرفين، تبرز قضية سد النهضة الذي وصل العمل فيه مراحل متقدمة، وتظل القضية الخلافية القائمة بين الدول الثلاث (مصر والسودان وإثيوبيا) هي قضية ملء وتشغيل السد، ويتهم الجانب الإثيوبي الجانب السوداني بقيادة رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان بالانحياز للموقف المصري بشأن ملف السد بعد التغيير السياسي في السودان.

ويقول الجانب الإثيوبي إن موقف حكومة الرئيس السابق عمر البشير كان داعما لمشروع السد، بل إن موقف السودان كان متوافقا مع الموقف الإثيوبي إبان فترة رئيس الرئيس الوزراء الراحل ملس زيناوي التي شهدت بداية انطلاقة مشروع سد النهضة.

ونسبت تصريحات للمهندس المقيم لمشروع سد النهضة سيمينياو بقلي قبيل أيام من مقتله بساحة مسكل، وسط العاصمة الإثيوبية أديس أبابا في 27 يوليو/تموز 2018، أن الرئيس السوداني (عمر البشير وقتها) دعم سد النهضة ماليا، وأن هناك اتفاقا تم بين زيناوي والبشير بإعطاء السودان الأولوية في بيع الكهرباء المنتجة من السد بعد اكتماله والبالغة 6 آلاف ميغاوات، عبر شركة الكهرباء الإثيوبية “إثيو تيليكوم”، ويتنافس السودان وجيبوتي وجنوب السودان علي شراء الطاقة الكهرومائية الناتجة من السد بعد اكتمال المشروع، وتريد إثيوبيا المكتفية من الإنتاج الكهربائي بيعها.

غير أن موقف السودان تغير بعد سقوط نظام الرئيس البشير وتماهى تماما مع الموقف المصري بعد التغيير بحسب الجانب الإثيوبي، وتقول الحكومة الإثيوبية إن الطرفين السوداني والإثيوبي كانا علي اتفاق بجعل الحدود بينهما مرنة في منطقة الفشقة على مدى سنوات، رغم أن الحدود بينهما لم ترسم إيمانا منهما -عمر البشير وملس زيناوي- أن المنطقة تعد منطقة للتداخل الاجتماعي، كما أنها تعد مركزا تجاريا حدوديا لتبادل المنافع الاقتصادية ولم ينزعا لصراع مسلح حولها، فضلا عن أن العلاقات بين البلدين علاقات إستراتيجية في العديد من المصالح الأخرى، منها اعتماد إثيوبيا علي الموانئ السودانية في الصادرات والواردات وهي لا تمتلك ساحلا علي البحر الأحمر وتستأجر مرفأ “الميناء الأخضر، في ولاية الأحمر، كما أنها تعتمد على السودان في مدها بالحبوب والعديد من المنتجات الزراعية وكذلك المواد النفطية وغيرها.

ستكشف المرحلة المقبلة عن مسار العلاقات والمصالح بين الطرفين في ظل عدم الاستقرار في منطقة هي الأهم على الساحل الأفريقي بالبحر الأحمر.

“الجزيرة نت”

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى