تحقيقات وتقارير

حرب الخرطوم تشعل أسعار العلاج وتفاقم معاناة المرضى

لا تزال حرب الخرطوم تلقي بظلالها القاتمة على نواحي الحياة، ولم يعد السودانيون مهددين بفقد حياتهم بطلقة طائشة أو دانة تسقط على منزل أحدهم، فأصحاب الأمراض المزمنة باتوا مهددين بالموت بسبب انهيار المنظومة الصحية وخروج 65 في المئة من مستشفيات العاصمة عن الخدمة بحسب منظمة أطباء السودان، مما فاقم أوضاع المواطنين بدرجة لا توصف.

تأخذ المعاناة أشكالاً مختلفة من فقدان الأدوية المنقذة للحياة إلى ارتفاع الفاتورة الاستشفائية، فضلاً عن عدم استقبال المؤسسات الصحية سوى الحالات الطارئة، وصولاً إلى سوء الخدمات التي تقدمها، مما شكل عبئاً ثقيلاً على عاتق آلاف المرضى.

يعيش مرضى السرطان في السودان واقعاً مؤلماً مع استمرار المعارك التي تسببت في إخلاء مستشفى “الذرة” لعلاج الأورام من الكوادر الطبية بعد أسبوع واحد من بداية الحرب نظراً إلى وقوعه تحت مرمى نيران الطرفين المتقاتلين بالقرب من القيادة العامة للجيش. يقول وليد خضر الذي يتلقى العلاج في ولاية الجزيرة جنوب العاصمة إن “الأدوية الكيماوية الضرورية لعلاج السرطان نفدت تماماً، وحتى المتوفرة في الصيدليات، على قلتها، ارتفعت أسعارها بصورة خيالية، والمواطن لا يستطيع تحمل كل هذه المصروفات، ولجأ كثيرون إلى مراكز علاج في أقاليم البلاد المختلفة بعد تأزم الوضع في الخرطوم”، مضيفاً أنه تلقى أربع جلسات علاج بالأشعة من أصل 15 جلسة كانت مقررة في مركز بالعاصمة قبل أن يتوقف عن العمل بسبب تصاعد القتال.

واعتبر خضر أن “الحصول على الرعاية حق إنساني ملزم، ولا يجوز التقصير في رعاية المرضى لأن عدم توفر العلاج سيقود إلى الموت، ومن واقع تجربتي ومعاناتي اليومية في البحث عن الدواء، أرى أن القطاع الصحي أصبح مجرد سوق سوداء تتنافس على الكسب لا جودة الخدمة الطبية”. قالت منظمة الصحة العالمية إن الأزمة الصحية في السودان وصلت إلى مستويات خطرة، إذ لا يزال أكثر من ثلثي المستشفيات خارج الخدمة وسط تقارير متزايدة عن شن هجمات على المرافق الصحية.

ومنذ اندلاع الاشتباكات بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” في الـ15 من أبريل (نيسان) الماضي وحتى الـ24 من يوليو (تموز) الماضي، تحققت منظمة الصحة العالمية من 51 هجوماً على المرافق الصحية، مما تسبب في وفاة 10 أشخاص وإصابة 24 آخرين، فضلاً عن قطع الوصول إلى الرعاية الصحية التي تمس الحاجة إليها. يقول المتحدث باسم تجمع الصيادلة المهنيين في السودان صلاح الدين جعفر إن “الحرب تسببت في تفاقم الوضع الصحي بصورة عامة والدوائي بشكل خاص، لا سيما بعد استهداف المؤسسات الصحية والصيدلانية من “الدعم السريع”، خصوصاً في الخرطوم المركز الرئيس للإمداد الدوائي في البلاد لوجود معظم الشركات والمصانع والمخازن التابعة للصندوق القومي للإمدادات الطبية بالعاصمة، وتعرضت 41 شركة دوائية للنهب والإتلاف وكذلك 12 مصنعاً تمثل قرابة 50 في المئة من المصانع الدوائية، فضلاً عن استحالة تواصل الإنتاج والعمل في البقية”.

يوضح جعفر أن هذا الاستهداف “كان له كبير الأثر في وفرة الأدوية في كل أقاليم السودان، ويمكن إجماله في شح وغلاء أدوية القطاع الخاص التي توفرها الإمدادات الطبية مثل الأدوية الأساسية والمنقذة للحياة إلى جانب جرعات مرضى السرطان والسكري والملاريا والأزمة الصدرية ومستلزمات غسيل الكلى والقساطر القلبية وصبغة الأشعة”. ونبه جعفر إلى أن “صعوبة الحصول على الدواء تختلف من ولاية إلى أخرى بحسب استقرار الإمداد ودرجة الأمان وحجم الضرر الواقع على المؤسسات الصيدلانية في الولاية المعنية، إذ تعاني العاصمة الخرطوم شحاً في أدوية الطوارئ والمستهلكات الطبية في صيدليات المستشفيات نتيجة لتوقف الصندوق القومي للإمدادات، علاوة على تضرر مخازن صندوق الدواء الرئيسة ونهب بعضها وصعوبة الوصول إلى بعضها الآخر، مما عطل عملية الإمداد”.

وأضاف “كما يعاني المرضى صعوبة الوصول إلى الأدوية بسبب خطورة استخدام الطرقات مع استمرار نيران الأسلحة، فضلاً عن خروج عدد كبير من الصيدليات عن الخدمة نتيجة نهبها من قوات ’الدعم السريع‘ أو المتفلتين، إذ تعرضت 216 صيدلية للنهب والسلب من بينها 103 في الخرطوم و48 بمدينة أم درمان و65 في بحري، مع توقعات بأن العدد الحقيقي يمثل أضعاف ما رصد حتى الآن بخاصة في العاصمة وإقليم دارفور”. وأشار المتحدث باسم تجمع الصيادلة إلى أن “الولايات تعاني عدم استقرار الإمداد الدوائي مع نقص حاد في أدوية الطوارئ ومستهلكات نقل الدم والأمراض المستديمة مثل أدوية ارتفاع ضغط الدم والسكري والغدة الدرقية، إضافة إلى المضادات الحيوية وأدوية الأطفال، كما تعاني انعدام أدوية الأمراض النفسية والعصبية، مما قاد لحدوث عدد من حالات الانتحار وتدهور الوضع الصحي لعدد كبير من المرضى”.

وحذر جعفر من تفاقم الندرة الدوائية في الفترة المقبلة ما لم يكن هناك معالجات مستعجلة تضمن استقرار الإمداد لأقاليم البلاد المختلفة، وطالب وزارة المالية بتخصيص الموارد اللازمة للصندوق القومي للإمدادات الطبية للقيام بدوره في توفير الخدمة، ودعا المجلس القومي للأدوية والسموم إلى وضع الخطط بما يتناسب والوضع الطارئ.

إلى ذلك تفاقمت أزمة الأدوية في صيدليات الخرطوم مع ارتفاع أسعارها إلى معدلات قياسية، إضافة إلى ندرة وجود كثير منها، إذ تقول صفاء محمد نور إنها تعاني مرض السكري وتجد صعوبة بالغة في الحصول على الأنسولين.
نور ليست وحدها من يعاني، فعديد من مرضى السكري يبحثون عن الأنسولين في الصيدليات ولا يلقون سوى إجابة واحدة: “الدواء غير متوفر”، حتى تفاقمت حالاتهم الصحية. تقول نور إن الندرة في الأنسولين اضطرتها إلى تقنين الجرعات بصورة ذاتية من دون استشارة الطبيب، فعوضاً عن جرعتين يومياً باتت تأخذ حقنة واحدة في اليوم حتى تحافظ على وجود الدواء لأطول فترة ممكنة على رغم الأخطار التي قد تترتب على خطوتها غير المسبوقة. وأشارت إلى أن “بعض مرضى السكري لجأوا إلى استخدام الأقراص بدلاً عن جرعات الأنسولين نظراً إلى توفرها في الصيدليات بالعاصمة والولايات علاوة على قلة الكلفة”، لافتة إلى أن “تلك الخطوة يفترض أن تكون باستشارة طبية حتى لا تحدث مضاعفات مميتة للمرضى”.

وعن معاناة مرضى غسيل الكلى، يقول الزين حامد الذي رافق والدته في رحلة البحث عن الدواء، إن “تأخر توفير مستلزمات الغسيل يعقد وضع المريض ويعرضه للخطر، بخاصة أن كثيرين لا يملكون المال لشراء العلاج وتصبح حياتهم تحت رحمة وجود هذه المواد التي تعجز وزارة الصحة عن توفيرها، مما يفاقم معاناتهم ويسبب ألماً نفسياً قد يصل بهم إلى الاكتئاب”.

وأوضح حامد أن “معظم المرضى يعانون فقر الدم والتعب والهزال، مما ينتج منه ضعف أو فشل في عضلة القلب، وتعود كل هذه الأعراض بحسب الأطباء لعدم الانتظام في عمليات الغسيل والعلاج المستمر”. ونوه بأن “المستشفيات خفضت مدة الغسيل لساعتين فقط بدلاً عن أربع ساعات، كما كان يحدث في السابق، إضافة إلى تقليص عدد الجلسات من مرتين إلى مرة واحدة خلال الأسبوع، مما يؤدي إلى نقص البوتاسيوم ومن ثم تدهور صحة المرضى”.

من جهته يشير الصيدلاني أحمد خضر إلى أن “الندرة ليست قاصرة على أدوية بعينها، بل شملت علاجات عدة منها المنقذة للحياة، فضلاً عن ارتفاع الأسعار بسبب حجم الضرر الذي وقع على المؤسسات الصيدلانية إلى جانب توقف عمل الصندوق القومي للإمدادات”. وأضاف “خرجت عدد من الصيدليات في الخرطوم عن الخدمة نتيجة تعرضها إلى النهب والسلب، وأدى توقف الإنتاج والعمل إلى تفاقم الأزمة بصورة لم تحدث من قبل”، مبيناً أن “هناك شحاً في جرعات مرضى السكري والملاريا والأزمة الصدرية والقساطر القلبية”.

عثمان الأسباط – “إندبندنت عربية”

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى