تحقيقات وتقارير

الاقتصاد التركي.. هل تراجع إردوغان حقا عن سياساته “غير التقليدية”؟

لا تزال “لغة الاقتصاد” تخيّم على المرحلة التي تلت فوز الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، بولاية رئاسية ثالثة، وتفتح سلسلة من القرارت التي اتخذها الفريق الاقتصادي المعيّن حديثا باب تساؤلات بشأن ماهية السياسة التي يسير من خلالها، وفيما إذا كانت تشكّل انقلابا على “النموذج الفريد”، الذي جرى تطبيقه بعد العام 2021.

ويضم الفريق الذي عينه إردوغان بعد فوزه بالانتخابات نائبه جودت يلماز، ووزير الخزانة والمالية محمد شيمشك، بالإضافة إلى حفيظة إركان التي تعد أول امرأة تتولى منصب رئيس “المصرف المركزي” في البلاد. وعاد الرئيس التركي قبل أيام ليُقدم على تغيير طاقم نواب رئيسة “المركزي”، إذ عين، يوم الخميس، وبموجب مرسوم رئاسي 3 نواب جدد، هم: عثمان جودت أكجاي وفاتح كراهان وخديجة كراهان.

وكان لافتا بعد تعيينه في منصب وزير الخزانة والمالية تعهّد شيمشك بالعودة إلى “سياسات اقتصادية عقلانية”. وبعد شهر من هذا التصريح خرجت إركان الخميس أمام الصحفيين، معلنةً البدء بمرحلة “التشديد النقدي”. وأشارت تلك السيدة من جانب آخر إلى أن “البنك المركزي” رفع توقعاته بشأن معدل التضخم في تركيا لنهاية العام الجاري إلى 58 في المئة (من 22.3 في المئة).

وما بين هذين التصريحين كان “المركزي” اتجه إلى رفع أسعار الفائدة لمرتين، الأولى من 8.5 بالمئة إلى 15، والثانية من 15 إلى 17.5، وأعطى مؤشرات على المضي لاحقا بهذا المسار. وما سبق اعتبرته خبراء اقتصاد تحوّلا كبيرا عن السياسة السابقة للرئيس التركي، التي لطالما وصفتها الأوساط بأنها “النموذج الجديد في الاقتصاد”، الذي يقوم على فكرة أن “الفائدة سبب التضخم”.

ويعرف شيمشك بلقب “صديق الأسواق”، وهو اقتصادي كبير لطالما تردد اسمه في المشهد الاقتصادي لتركيا، وفي الفترة التي استبقت اللقاءات التي أجراها معه إردوغان، وصولا إلى تعيينه في منصب وزير الخزانة. وكذلك الأمر بالنسبة لإركان التي تنظر إليها الأسواق بذات العين، رغم أنها لم تقدم في مؤتمرها الصحفي الأول، الأسبوع الماضي، إجابات بشأن نظرية الرئيس بأن “الفائدة هي السبب، والتضخم هو النتيجة”.

وكان عام 2022 شهد تطبيق النموذج الاقتصادي المبتكر من جانب الحكومة، الذي قام على فكرة غير تقليدية، وهي أن الفائدة سبب التضخم، على خلاف النظرية الاقتصادية التي تقول إن معالجة التضخم تتطلب رفع أسعار الفائدة. وبموجب السياسة غير التقليدية استمر البنك المركزي التركي بتخفيض أسعار الفائدة بشكل متسلسل، بدءا من الحد الأول 19 ووصولا إلى تثبيتها عند 8.5 بالمئة، أي فئة “الآحاد”، وهو الوعد الذي كرره إردوغان مرارا.

لكن “الوعد” سرعان ما تراجع عنه الرئيس التركي بعد فوزه بالولاية الثالثة، وهو ما انعكس بسلسلة القرارات التي اتخذها فريقه الاقتصادي الجديد، وعلى رأسه شيمشك وإركان، إذ أقدموا على رفع الفائدة إلى حد 17.5. ويوضح الباحث الاقتصادي، د. مخلص الناظر، أن الأسماء التي تم تعيينها على رأس الاقتصاد خلال الفترة الماضية من شيمشك إلى إركان، وصولا إلى نواب رئيس المصرف “معروفون بأنهم اقتصاديون ليبراليون”.

ولذلك يقول الباحث لموقع “الحرة”: “الملف الشخصي لهؤلاء يوحي بأنهم ليبراليون ولا يطبقون النموذج الاقتصادي الفريد للرئيس التركي”. ويواصل مؤشر التخلف عن سداد الديون التركية لأجل خمس سنوات الانخفاض مع ترحيب الأسواق بالتعيينات الجديدة في البنك المركزي، التي “توحي بعودة كاملة للاقتصاد الليبرالي والسياسة العقلانية ونهاية النموذج الاقتصادي الفريد”.

ومع ذلك، يضيف الناظر، أن “الإجراءات المقبلة فيما يتعلق بالسياسة النقدية ستكون تحت الضوء”، لاسيما أن رفع الفائدة لمرتين خلال الفترة الماضية لم يكن كما تتوقعه الأسواق. ويرى أن “الرفع الحاصل دون التوقعات، وبشكل بطيء، يوحي أن الفريق الاقتصادي الجديد مازال مرتبطا بجزء بأفكار الرئيس التركي الاقتصادية السابقة”.

وتشير تصريحات إركان الأخيرة إلى “وجود نهج منسق بين السياسات النقدية والمالية”، كما يقول الباحث الاقتصادي في مركز “سيتا” للدراسات، دينيز استقبال. ويوضح الباحث التركي لموقع “الحرة”: “من خلال تنفيذ كل من الإجراءات النقدية والمالية الصارمة، فإن الهدف الأساسي هو مكافحة التضخم، ووضع حد للاندفاع التضخمي الحالي”. وأردف: “يسعى اقتران هذه السياسات إلى تقليل الضغوط التضخمية بشكل فعال وتحقيق الاستقرار في الاقتصاد”.

ويضيف استقبال: “من بين الإجراءات المتخذة لخفض الطلب، انكماش الائتمان والتوسع المالي الانتقائي. وعلى وجه الخصوص، سيتم استخدام التدفق المالي من الخارج لموارد الاستثمار والتصدير”. ومع ذلك، “يمكن القول إن الفريق الاقتصادي الجديد ينفذ مجموعة سياسات لا تضع التوظيف والنمو في الخلفية”، وفقا لنفس الباحث.

وعندما سئلت المحافظة الجديدة لـ”المركزي التركي” إركان عما إذا كان الضغط السياسي هو السبب في أن رفع سعر الفائدة كان أبطأ من توقعات السوق مؤخرا، أجابت بالقول: “لن تتلقوا مني أي بيان سياسي، لذلك دعونا لا نتعب”. ويدل ما سبق على أن “الفريق الاقتصادي الجديد لم يسمح له بعد بتشديد السياسة النقدية وبقوة”، ويشير الباحث الناظر إلى أن “التشديد الانتقائي يعطي مؤشرا على عدم الخروج من النظرية السابقة بشكل كامل”.

ويتوقع الباحث أن ترتفع معدلات التضخم في الأيام المقبلة بسبب فرض الضرائب وانخفاض قيمة الليرة، وقد تصل إلى حاجز 46 بالمئة. ولذلك يوضح أن الاجتماع المقبل لـ”المركزي التركي” سيكون هاما، فيما ستتسلط الأضواء على النسبة التي سيرفع من خلالها أسعار الفائدة، مردفا: “التضخم قد يصل لـ46 بالمئة والفائدة 17.5 وهذا يعني أن العائد سلبي بمقدار 30 بالمئة”.

ويرى الناظر أن الفريق الاقتصادي عليه أن “يحرك سعر الفائدة في المحطة المقبلة إلى 25 بالمئة لكي يقنع الأسواق بدربه الجديد”، مشددا على أن “العلاج الحقيقي يكمن في التشديد النقدي العنيف والكبير والصارم”.

وكان “النموذج الاقتصادي الفريد” لإردوغان قد بدأ عندما وصلت أسعار الفائدة إلى حد 19 بالمئة، وبيد المحافظ ناجي أغبال. وفي تلك الفترة أسفر هذا القرار عن إقالة الأخير وتعيين محافظا جديد بدلا عنه. ويشرح الناظر أن “في الاجتماع المقبل وفي حال تم تجاوز نسبة الـ19 أو الوصول إليها فهذا يعني انتهاء النموذج السابق للرئيس التركي”، وفي حال غير ذلك “سترتد الأمور إلى السلب”، وفق تعبيره.

وبعد انتخابات 2018، تمت إعادة هيكلة إدارة الاقتصاد تحت مسمى وزارة الخزانة والمالية وتم تعيين بيرات البيرق لهذه المهمة، لكنه استقال في ديسمبر 2020 وخلفه لطفي إلفان. وعقب ذلك بعام استقال إلفان بسبب فكره المخالف لسياسة خفض الفائدة، بحسب ما ذكرت وسائل إعلام، ليحل مكانه نور الدين نباتي، وهو الاسم الذي عاصر سياسة “نموذج الاقتصاد التركي الجديد”.

ولم تقتصر التغييرات على وزارة الخزانة في السنوات الماضية، بل طالت المحافظين، كونهم لم يؤيدوا سياسة خفض الفائدة، وعلى رأسهم ناجي أغبال. وبعد أغبال، عيّن الرئيس التركي شهاب قافجي أوغلو، وعاصر كما هو الحال بالنسبة لنور الدين نباتي النموذج الجديد، ومسار خفض الفائدة حتى حد 8.5 بالمئة، إلى أن حلّت مكانه حفيظة إركان التي تتولى إلى جانب شيمشك الآن مهمة “خفض التضخم إلى فئة الآحاد”.

“الحرة”

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى