الحرب في السودان تصعب تسويتها في غياب علاقات دافئة مع دول الجوار
فرضت الحرب الراهنة في الخرطوم والتي امتدت إلى دارفور على مصر اهتماما خاصا بالدول المجاورة للسودان، لأن جزءا كبيرا من مفاتيح حل الأزمة تملكه أطراف غير سودانية من المهم الحوار والتعاون معها قبل أن تجد الدولة نفسها خارج المبادرات المطروحة للتوصل إلى وقف لإطلاق النار بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
وظهرت تجليات الاهتمام المصري من خلال زيادة وتيرة الانفتاح على أطراف سودانية عديدة لا تتفق معها سياسيا أو لها تحفظات على توجهاتها حيال الخرطوم موروثة منذ سنوات، وتسهم التصورات الجديدة في خلق مساحة جيدة للحوار مع قوى مهمة داخل السودان وخارجه لوقف حرب تؤثر تداعياتها على دول الجوار، وفي مقدمتها مصر.
وأبدت القاهرة تركيزا في السنوات الأخيرة بالقارة الأفريقية. جزء منه جاء بسبب شروع إثيوبيا في بناء سد النهضة وتصميمها على عدم التوقيع على اتفاق ملزم للتفاهم في عمليات الملء والتشغيل، وآخر له علاقة بمكافحة الإرهاب الذي له مراكز معلومة في القارة، لكن التركيز انصب على القضايا التي تهم مصر مباشرة.
وكشفت قمة دول جوار السودان ثم حضور الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قمة الاتحاد الأفريقي في نيروبي بعدها بأيام قليلة عن اشتباك جديد من قبل القاهرة مع هموم القارة، حيث تأكدت أن وجود روابط كبيرة بين الملفات المتباعدة، فالحرب في السودان تصعب تسويتها في غياب علاقات دافئة مع دول الجوار، والتوصل إلى حل بشأن سد النهضة لن يحدث في وجود توتر مع دول مؤثرة أو عدم اكتراث بقضاياها.
من الملاحظ أن هناك تغيرا صاعدا في تصورات القاهرة تجاه دول أفريقيا، القريبة والبعيدة من مصر، أرجعته مصادر مطلعة لـ”العرب” إلى استعانة الرئيس السيسي بشكل كبير بمستشارة الأمن القومي المصري السفيرة فايزة أبوالنجا، والتي لها باع طويل في السياسة الخارجية لمصر، وخبرة في العمل الدبلوماسي تمكنها من إعادة صياغة المحور الأفريقي، على الأقل، في منظومة السياسة الخارجية.
وشرعت أبوالنجا في الاستفادة من خبرات البعض من الدبلوماسيين السابقين وعقد لقاءات معهم أملا في تقديم مقاربة مصرية شاملة ومفيدة للتعامل مع القارة، تتجاوز الدول التي للقاهرة مصالح مباشرة معها، وعبّرت قمة دول جوار السودان عن هذا التوجه، فحضور قادة ست دول الاجتماع جاء نتيجة تحركات شاركت فيها أجهزة الدولة المختلفة لتضمن تمثيلا رفيعا. وعكس هذا التمثيل حرص مصر على تطوير العلاقات واستعدادها للخروج من القوقعة السياسية السابقة ومد خيوط التعاون مع دول أخرى على أساس المصالح الدائمة المتبادلة وفي مجالات مختلفة.
وإذا كانت هذه القمة لم تحقق اختراقا حقيقيا في الأزمة السودانية، فإنها أوحت أن مصر لن تكون بعيدة عنها الفترة المقبلة، ولن تقبل بتهميشها من قوى إقليمية ودولية تحاول تجنيب القاهرة المشاركة في ترتيب أوضاع ربما لا تتماشى مع أهدافها، ومدخل مصر في ذلك المشاركة بفاعلية وتطوير العلاقات مع الدول المعنية.
كشف التفاهم بين مصر وإثيوبيا والعودة إلى التفاوض مرة أخرى حول سد النهضة عن بُعد ظاهر في هذا التوجه، وبعيدا عن قدرة الطرفين على التوصل إلى اتفاق بينهما خلال الأشهر الأربعة المحددة للتفاوض أم لا، فالخطوة أشارت إلى التخلي عن العزلة التي فرضتها القاهرة مضطرة عندما شعرت أنها غير قادرة على التفاهم مع أديس أبابا.
وأدى انعزال مصر عن أفريقيا منذ أواخر عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك إلى السحب على المكشوف من رصيدها في القارة، ولم يتمكن الرئيس السيسي من تفكيكها تماما، أو بمعنى أدق تخلى عنها جزئيا من دون أن يغير في المعادلة التي تركها مبارك، لأن السيسي منح جانبا كبيرا من الاهتمام للدول التي لها مصالح مباشرة مع بلاده.
وقاد اختزال هذه السياسة في دول أفريقية بعينها إلى خلق رواسب سياسية مع دول بعيدة بدأت تتقاطع مع الأزمات التي تهم مصر في القارة، من سد النهضة إلى السودان مرورا بليبيا والصومال، ناهيك عن انتشار التطرف الذي لم يعد قاصرا على دول بعينها، ما يفرض توسيع دوائر الحركة أمام السياسة المصرية واستعادة الدور الذي ساعدها من قبل على عدم المساس بمصالحها.
وتدور الدبلوماسية المصرية، والتي تشارك في هندستها بجوار السفير فايزة أبوالنجا أجهزة سيادية، حول تغيير الصورة السلبية التي ذاع صيتها في بعض دول القارة، وحصرت تحركات القاهرة في حدود أسهمت في قيام دول من خارج أفريقيا بتمديد نفوذها في أماكن متفرقة، بينها ما يمس جوهر المصالح الحيوية لمصر التي تحتاج إلى أدوات تتجاوز السياسة وتتطلب وسائل اقتصادية وعسكرية، لأن غالبية الدول الأفريقية تقيم علاقاتها على أساس ما يمكن أن تحصده من مكاسب متنوعة.
لذلك فالعبرة ليست في الحضور الرمزي من خلال المشاركة في مبادرات واجتماعات أو تنظيم قمم، لكن فيما هو أبعد، تحديدا في الجزء الخاص بالفاعلية التي تتوقف على حجم ما تستطيع أي دولة تقديمه، فقد تكون القاهرة حصدت مكاسب سياسية من انعقاد قمة دول جوار السودان بالقاهرة، إلا أن الفوائد الحقيقية تظل معلقة على مواصلة هذا الطريق وما ينطوي عليه من جهود حثيثة لتأكيد أن فورة الحماس دائمة وليست مؤقتة.
وتمثل أزمة السودان اختبارا جادا للدور المصري في القارة، وعلى الرغم من أن تشابكاتها الإقليمية والدولية، تستطيع القاهرة البناء على قمتها السابقة، لأن الاكتفاء بما تمخض عنها من نتائج معنوية لن يفضي لتغيير في مشهد متوقع أن يزداد تعقيدا الفترة المقبلة، فالانسداد في المفاوضات بين وفدي الجيش وقوات الدعم السريع في جدة يفتح المجال لخيارات بديلة قاتمة سوف تكون مصر من أكثر الدولة تضررا من روافدها.
ولا أحد يعلم طبيعة ما تقوم به مصر حاليا وما يمكن أن تفعله لاحقا، لأن الأزمة دخلت نفقا يستوجب التحرك على مستويات متعددة، بينها محاولات توريط شرق السودان في تطوراتها عقب تداول معلومات حول نشاط متزايد تقوم به قيادات في حزب المؤتمر الوطني المنحل والحركة الإسلامية.
والخطورة أن هذه المنطقة قريبة من الحدود الجنوبية لمصر وحيوية لمجرى قناة السويس الملاحي، ما يستلزم القيام بتوسيع دوائر الحركة، فيمكن أن تفاجأ القاهرة بسيناريو غير مستعدة له، يربط شرق السودان بحزام أزمات يصل إلى الصومال جنوبا.
ولا يقتصر التعامل مع هذه المعطيات على الدول القريبة من محور الأزمات ويجب أن يمتد إلى من يقفون خلفها أو لهم دور في المنظمات الإقليمية المؤثرة في تطوراتها، وعلى مصر أن تلتفت إليها، لأن التحركات الدبلوماسية وحدها لن تغير كثيرا في شكل المعادلات الرئيسية، فقد تمنح التحركات لأيّ دولة ميزة الحضور، إلا أن شرط التأثير يحتاج إلى مروحة واسعة ورؤية سياسية شاملة وأدوات أخرى مكملة.
محمد أبو الفضل – “صحيفة العرب”