تحقيقات وتقارير

راشد دياب: أواجه مأساة السودان بألوان الأمل

طوال سنوات، جسّد الفنان راشد دياب التراث الشعبي السوداني بأسلوبه الفني الخاص ونقله تجلياته على المستويين العربي والعالمي. على الرغم من الإنتشار العالمي الذي حققه، بقي متمسكاً بالبيئة السودانية في الأعمال الفنية التي قدمها، فجسّد من خلالها حركة التشكيل السوداني التي يعد من روادها. بقيت البيئة السودانية أساساً لا يتخلى عنه، لا بل يستلهم منه ليوثق الحركة التشكيلية السودانية. وفي الوقت نفسه، قدّم فناً حداثياً منفتحاً على الحركة التشكيلية العالمية الراهنة. ولكونه ابن بيئته، وهو أشد الحرص على تجسيدها مستعيناً بقدرته الإبداعية، استطاعت أعماله أن تعكس قضايا الشعب السوداني في مواجهة التحديات والشدائد المتوالية. هكذا يأتي معرض “موسم الهجرة المرة” لينقل معاناة فنان ومن ورائه معاناة أبناء وطنه في ظل المآسي بعد مرور حوالى 4 أشهر على الحرب في السودان.

أراد الفنان راشد دياب أن يستعين بفنه المتفرد بخصائص مميزة، داعياً إلى نبذ الحرب ومواجهة العنف المستشري والمآسي المتواصلة. ومن يشاهد لوحاته ال25 التي يضمها معرض “موسم الهجرة المرة” الأول له في بيروت، (ينتقل من ثم إلى المغرب ولشبونة وكينيا) يمكنه قراءة واقع البلاد المتهالكة سياسياً وإجتماعياً، فهي تأتي كرد فعل تشكيلي وفني على ما خلّفته الحرب الأخيرة في السودان. في حديثه مع “اندبندنت عربية” يؤكد الفنان أنه عاد إلى بلاده ليخلق حالة فنية ويحدث تغييراً على المستوى الثقافي من خلال حركة جديدة فيها، لأن الثقافة وحدها كفيلة بالحفاظ على تماسك البلاد والشعوب. أما الدول التي تتهاون على المستوى الثقافي، فتنهار كياناً وشعباً وسلطة.

ليس هذا المعرض الذي يقام في “غاليري براق نعماني” في بيروت، إلا واحداً من سلسلة من الأنشطة الثقافية التي حرص الفنان على نقلها إلى الجيل الجديد، علّه يتمكن من إحداث هذا التغيير المنشود لاعتبار أن “الفنون تطهر العقول في مواجهة السلبيات”.

في فترة الحرب، تبين له، أنّ ثمة حاجة ماسة إلى جمع الناس على المستوى الثقافي. لذلك، أتى معرض “موسم الهجرة المرة” ليعكس تجربة الرحيل والهجرة لأهل السودان الذين يتركون كل ما لديهم بسبب ظروف الحرب ويهاجرون. “على الرغم من كل سلبياتها، للحرب جانب إيجابي لا يمكن ان نتغاضى عنه. إذ تساهم في إنتاج علاقة نوعية وفي توطيد العلاقات بين الناس من خلال التكاتف والإحساس بالصلة مع الآخر في مواجهة العنف. هذا إضافة إلى الحس الوطني العالي الذي تخلّفه الحرب لدى الشعب في ظل المآسي التي ترزح تحتها البلاد، هذا الحس الوطني الذي قد يكون غائباً في أيام السلم”.

الديكتاتورية السائدة في السودان ألقت بظلالها على الشعب السوداني فأنهكت البلاد في الأعوام الماضية، ثم أتت الحرب لتخترق ذاكرة الناس، وهو أسوأ ما يمكن أن يتعرض له الشعب، بحسب دياب. ويشير إلى أن الشعب الذي يفرغ من ثقافته وحريته وديمقراطيته يفقد القدرة على الإختيار. لذلك، تبقى الثقافة سلاحاً بيد الشعب في مواجهة الحرب.

لم يعتمد الفنان في لوحاته “خروج 2″ و”لا شيء يقال” و”خارج الحدود” و”مناقشات” و”نهاية حزينة” و”لا يستحق شيئاً” وغيرها، الألوان الداكنة أو الأسود والرمادي تعبيراً عن حجم المآسي والحزن في ظل الحرب وظروف الهجرة، بل سلك طريقاً مختلفاً بأسلوبه الفني الخاص علّه يتمكن من الخروج من حالة الحزن والإكتئاب من خلال الألوان القوية المتعددة. فبدلاً من أن يعتمد تلك الألوان التي عبرت عن الحزن في النظرة التقليدية للفن، ليعكس الأجواء السائدة في ظل الحرب وكل ما لها من تداعيات، اختار الألوان القوية هنا. إنما لم ترمز لديه إلى الفرح، بل اعتمدها حتى لا يغوص في الإكتئاب الذي خلّفته هذه الأجواء، خصوصاً بعد هجرة الناس. وإذا بالألوان تبرز هنا كعنصر قوة. لم يشأ الفنان أن يفكر بالحداد من خلال أعماله بل بسبل الخروج من الحزن والحداد، معتبراً أن الحداد الحقيقي يكون في داخل الإنسان، ويمكن للوحة أن تعكس هذا الحزن الداخلي ولو بأسلوب غير مباشر.

في المقابل، تأتي الحركة التي في اللوحة لتعبر فنياً عن الهجرة ومآسيها. يظهر الناس فيها وكأنهم يخرجون من الإطار، كأنهم يغادرون اللوحة مبتعدين عن الإستقرار. هنا، تبرز بشكل واضح الحالة النفسية التي يمر بها الفنان والسودانيون. فيبدو أن النساء الملتفات بالزي التقليدي يخرجن من إطار الحرب ويعبرن الصحراء في هجرتهن، بعيداً عن أهلهن، باتجاه طريق لا يبدو أنّ ثمة وجهة محددة لهن فيها. اعتمد الفنان هنا تقنية تعبيرية جديدة تجسد أحوال الحزن والمآسي والمعاناة بأسلوب فني تعبيري حديث، من خلال أجسام غير واضحة البنية والمعالم والخطوط والظلال، متخلياً عن الوجوه بشكل تام.

قد لا يتمكن الفن من تغيير ظروف الحرب ولا إلغائها طالما انها موجودة، وهذا ما يدركه تماماً الفنان دياب. فلا يتصور أنه قد يغير حالة الحرب لاعتبارها مسألة لا يمكن التحكم فيها. لكنه كفنان، قادر على اكتساب التوازن الداخلي على صعيد شخصي، مستعيناً بقدرته الإبداعية ليشعر بالسعادة والرضا. فكأي فنان أو شاعر يؤكد أن المطلوب منه الإعتماد على قدرته الإبداعية ليحقق التوازن من خلال فنه الذي يخاطب من خلاله أيضاً الشعب السوداني. “هذا ما يمكن أن تحققه الفنون كظاهرة إبداعية لا بد من الإستفادة منها. يمكن أن تترك أثراً إيجابياً وتشكل رسالة هادفة توصل صوت الشعب. وفي الوقت نفسه، أخاطب العالم علّه يسمع هذا الصوت ويدرك معاناة الشعب السوداني منذ سنوات وخصوصاً في ظل الحرب الأخيرة”. يكفيه أن ينقل هذه الرسالة ليشعر بالراحة النفسية التي يبحث عنها كفنان بما أنه قادر على إحداث ذاك التغيير على طريقته الخاصة من خلال أعماله الفنية.

كارين اليان ضاهر صحافية لبنانية – اندبندنت عربية

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى