جعفر عباس

جعفر عباس يكتب: بين جدي وقائد أُموي

 

أذكر جيداً الهوجة الصحفية العارمة المدمدمة لأن الدستور العراقي الذي صدر على عهد نوري المالكي، لم ينص صراحة على انتماء العراق إلى الأمة العربية: غضب الكتاب القومجية والشعبيون، وكأنما الانتماء إلى أمة أو جنس أو عرق أو ملة بحاجة إلى (شهادة رسمية)، ولا يثبت إلا بالتدوين والتوثيق، والدساتير التي تحظى باحترام الحكام والشعوب في عالمنا المعاصر ليس في كثير منها أي ذكر للانتماء العرقي أو الجغرافي، والعجيب في الأمر أن الدول التي لديها دساتير عليها القيمة، تعترف بأن مواطنيها هجين بينما في كل واحدة من دولنا من يزعمون النقاء العربي العرقي، وبعد سقوط نظام صدام حسين أدرك الساسة العراقيون أن السبيل الوحيد لامتصاص النعرات الانفصالية لدى الأكراد والأشوريين وغيرهم يتأتى من عدم إضفاء جنسية واحدة على أبناء وبنات البلد بالجملة.

وقبل وبعد كل ذلك فإن عدم ذكر الدستور المذكور أن العراق عربي، لن يجرده من عروبته، وتبرؤ الأب من ولده لا يلغي حقيقة أنه والده، وأن المُتبرَّأ منه ولده. وكثرة التباكي على كون الدستور العراقي لم ينص صراحة على عروبة العراق جعلني أتذكر الانتقادات المتكررة التي توجه إليَّ لأنني أعلن بين الحين والآخر أنني نوبي. فيعتبرني البعض «مرتدا»، وكثيرا ما يستوقفني أحدهم قائلا: عندي لكم سؤال، لماذا تقول إنك نوبي بينما أنت عربي؟ جواب: هل تعرفني أكثر من نفسي؟ أنا نوبي الجينات والسحنة واللسان والثقافة، ولكن الإسلام هو الذي أسهم في تعريب ألسنتنا والثقافة الإسلامية كانت هي الرابط بيننا والعرب، فلا تعربوا الناس بـ (العافية)، ولا أنا أتنصل من أنني اكتسبت العروبة باللسان، وفي جميع الأحوال فإن النوبيين يحسون بأنهم وبحكم روابط الدين والجغرافيا والتاريخ والدم جزء من الأمة العربية، وينفعلون بقضاياها، ولا تتفشى في صفوفهم النعرات الانفصالية ولا يعانون عقدة الاضطهاد، رغم ما تعرضوا له من تهميش وتهويش! هل تودون معرفة لماذا نحن النوبيين شديدو الاعتزاز بجذورنا؟ اقرأوا معي حكاية من التاريخ العربي:

كان الخليفة العباسي المنصور يتسامر مع نفر من خلصائه عندما قال: إن مؤسسي الدولة الأموية كانوا على استقامة، ولكن أبناءهم المترفين قصدوا الشهوات واللذات وارتكبوا المعاصي والمساخط فسلبهم الله العز ونقل عنهم النعمة، فاقترح عليه صالح بن علي أن يسمع من الأموي عبد الله بن مروان الذي كان في أحد سجون المنصور عن حكايته مع ملك النوبة، فأمر المنصور بإحضاره، وسأله عن القصة فقال: هربنا بعد زوال ملكنا إلى بلاد النوبة غير المسلمة، وبينما نحن جلوس في دار للضيافة بعد أن فرشنا عليها ثيابنا، دخل علينا ملكهم وكان فارع القوام أقني الأنف (مثل الأنف الذي تراه في الصورة أعلاه) حسن الوجه (كما في الصورة أيضا، قل: ما شاء الله) جلس ملك النوبة على الأرض فسألناه: لماذا لا تجلس على ثيابنا؟

فكان رده: إن على الملك أن يتواضع لعظمة الله إذا رفعه.

ثم سألني: لماذا تشربون الخمر وهي محرمة عليكم؟

قلت (والكلام لعبد الله بن مروان): اجترأ عبيدنا وغلماننا علينا.

وسألهم الملك النوبي: ولماذا تطأون الزرع بدوابكم والفساد محرم عليكم؟

ج: نحن لا نفعل ذلك بل يفعله عبيدنا وأتباعنا لجهلهم.

سؤال: فلِم تلبسون الحرير والديباج والذهب والفضة وقد حرم الله ذلك على رجالكم؟

ج: قلَّ أنصارنا فانتصرنا بقوم من العجم أتونا بعاداتهم فلبسوا ذلك على كره منا.

طفق ملك النوبة ينكت الأرض ويردد: عبيدنا وأتباعنا وقوم استنجدنا بهم.. ثم قال: ليس الأمر كذلك، بل أنتم قوم استحللتم ما حرم الله وركبتم ما نهاكم عنه، وظلمتم من ملكتم أمرهم، فسلبكم الله العز وألبسكم الذل بثيابكم، وأخاف أن يحل بكم العذاب وأنتم في بلدي، وللضيافة ثلاثة أيام فتزودوا بحاجتكم وارتحلوا عن بلدي.

هذا الرجل من أجدادي، أفلا يحق لي أن أفتخر بالانتساب إليه؟

 

 

صحيفة الشرق

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى