أحد الاتجاهات نحو المشاريع العسكرية الطموحة لروسيا الحديثة مرتبط بالرئيس فلاديمير بوتين، إذ اقترن بروز هذه التطلعات بشكل فعلي مع التكوين المتسارع للاقتصاد البحري المرادف للأمن بعناصره المختلفة من النقل إلى الخدمات اللوجستية والموارد والمواد الخام والفرص الأخرى للبحار والمحيطات التي قدرت بأكثر من 70 في المئة من سطح الأرض.
ومن هذا المنطلق تعددت زيارات المسؤولين الروس إلى السودان وآخرها زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في التاسع من فبراير (شباط) الماضي ضمن جولة شملت أيضاً دولتي موريتانيا ومالي قبل أن يصل إلى الخرطوم في إطار محاولات توسيع التوغل أفريقياً، حيث تشتد المنافسة الإستراتيجية بين القوى الدولية على القارة السمراء.
من ناحيتها توسعت موسكو في نشر قوات مجموعة “فاغنر” العسكرية ومبيعات الأسلحة في مقابل استخراج الموارد الطبيعية، وأعلن لافروف أن روسيا تنتظر موافقة الخرطوم تشريعياً في شأن القاعدة البحرية المقرر إنشاؤها على البحر الأحمر.
وجاء تأكيد موسكو عزمها بناء القاعدة استناداً إلى تعهدات الرئيس السوداني السابق عمر البشير بتخصيص مساحة في قاعدة “فلامنغو” على البحر الأحمر لتكون مقر القاعدة العسكرية البحرية الروسية، وسط أجواء زيادة الوجود العسكري للفاعلين العالميين والإقليميين البارزين ووسط تزايد عدم اليقين والاضطراب الجيوسياسي، وتخدمها حالياً علاقات رئيس مجلس السيادة الفريق عبدالفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي) مع موسكو، وما يتردد من تعاون قوات “فاغنر” مع قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي.
ويبدو أن قدرة روسيا على الالتزام بتوفير القوة في المنطقة غير كافية لمواكبة حجم انخراطها في المجالين الاقتصادي والدبلوماسي، إذ دائماً ما يتبادر إلى الذهن أن القوة العسكرية هي النهج الطبيعي لها مما يجعل دول المنطقة وخصوصاً الأفريقية على أهبة الاستعداد لمزيد من الأنشطة التوسعية المختلفة، غير أن تركيز روسيا على دعم أولوياتها ربما يقلل اعتمادها على بلدان أفريقية أخرى إذا اكتمل إنشاء القاعدة العسكرية في بورتسودان.
مكسب إستراتيجي
وبالنسبة إلى روسيا يتمثل أحد عوامل توجهها البحري عموماً وفي أفريقيا والسودان خصوصاً من واقع تخصصها العالمي بالطاقة والمواد الخام، ووفق دائرة الجمارك الفيدرالية فإن ما يقارب 65 في المئة من صادرات موسكو هي حالياً منتجات وقود وطاقة، مما يسهم في مصالح الشركات والهياكل التجارية المتخصصة الكبيرة بحقول النفط والغاز بمناطق الجرف والساحل لروسيا.
كما تعد منطقة القرن الأفريقي من أهم المناطق الإستراتيجية المطلة على الممرات المائية المهمة، فضلاً عن الموارد الطبيعية وقربها من مضيق باب المندب المدخل الرئيس للبحر الأحمر الذي يمر عبره ما لا يقل عن 10 في المئة من حركة نقل البضائع، وبحسب ما ورد من تقارير رسمية فإن “هذه القاعدة يمكن أن تستقبل خلال وقت واحد ما يصل إلى أربع سفن حربية، بما في ذلك القوارب التي تعمل بالطاقة النووية وحامية عسكرية مكونة من 300 رجل”.
كما يعد حصول موسكو على قاعدة بحرية في ميناء بورتسودان مكسباً بالإستراتيجية الروسية التي ظلت ساعية إلى ذلك بعد مضايقات فرضتها عليها الولايات المتحدة في جيبوتي على رغم استمرارها هناك، وبعد أن فقدت تعاونها العسكري مع إثيوبيا زخمه بسبب الحرب التي تخوضها مع جبهة تحرير تيغراي وتسليط الأضواء العالمية على هذا النزاع.
تعزيز التعاون
أما بالنسبة إلى السودان فقد بدأ طرح فكرة القاعدة العسكرية الروسية خلال زيارة مساعد الرئيس السابق وقتها نافع على نافع إلى موسكو بعد انفصال جنوب السودان عام 2012، وعند زيارة البشير إلى سوتشي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 على خلفية برنامج يهدف إلى تعزيز التعاون بين البلدين في مجالات عدة ومن بينها الأمن والدفاع، لإخراجه من ضائقة العقوبات الأميركية، وكانت القاعدة الروسية حاضرة ثم تواصل التعاون بعد سقوط النظام وأعلن بعد أشهر فقط اتفاق يقضي باستعمال منشآت بورتسودان من قبل البحرية الروسية في مايو (أيار) 2019، كما وقعت موسكو والخرطوم اتفاقين عسكريين جديدين يهدف أحدهما إلى تعزيز التعاون في المجال البحري.
وبعد تحسن العلاقات الدبلوماسية بين الخرطوم وواشنطن وإعلان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في الـ 31 من مارس (آذار) 2021 أن السودان أوفى بواجبه في دفع مبلغ 335 مليون دولار تعويضاً لعائلات أميركية من أهالي ضحايا هجمات شنها تنظيم “القاعدة” على سفارتي واشنطن في كينيا وتنزانيا عام 1998، ومبلغ آخر لأهالي ضحايا المدمرة كول التي فجرت في الـ 12 من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2000، إضافة إلى مقتل الموظف الدبلوماسي الأميركي جون غرانفيل بالخرطوم عام 2008، خفتت قيمة الحماية الروسية للسودان.
وفي الإطار أيضاً شهدت العلاقات بين موسكو وأسمرا في أغسطس (آب) 2018 تفاوضاً حول إرساء قاعدة “لوجستية” على السواحل الإريترية، لكن من غير الإعلان عن تراجع من هذا التعاون بدت إريتريا الاستعداد لرفع العقوبات الأممية عنها، مما يجعل القاعدة الروسية في السودان الأكثر رواجاً حالياً.
عقيدة بحرية
مع قدم العقيدة البحرية في الديناميات الروسية، لكن أهدافها تأثرت على مدى العقود الثلاثة الماضية بعوامل أربعة، أولها انهيار الاتحاد السوفياتي خلال تسعينيات القرن الماضي مما مكنها من الإطلالة على سواحل إضافية، إذ تطل سواحل الاتحاد الروسي على مياه ثلاثة محيطات وهي المحيط الأطلسي والمتجمد الشمالي و الهادئ، ويعود لهذه المحيطات نحو 12 بحراً داخلياً فضلاً عن إمكان الوصول المباشر إلى السواحل البحرية الأخرى.
ونتيجة تلقي النشاط البحري في روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي دفعة متعددة الأبعاد باكتسابه نواقل جديدة مما أدى لعودة جزئية للبلاد إلى مجموعة القوى البحرية الرائدة بتمكينها من خلق شروط أساس لتوسيع منطقة وجودها بالمحيط العالمي.
أما العامل الثاني فهو الاقتصاد البحري المتنامي الذي بدأت فورته مع بداية الألفية الثانية بتطوير الاتحاد الأوروبي سياسة بحرية متصاعدة فرضتها الضرورات الاقتصادية والجيوسياسية، تمثلت في زيادة عدد الموانئ وخطوط الأنابيب البحرية ومنشآت النفط والغاز البحرية، وظهر ذلك في ارتفاع حجم التجارة العالمية واكتشاف إمكانات وموارد معدنية بحرية، فضلاً عن تركيز المدن الساحلية كمراكز للاقتصاد العالمي وانتعاشها. وجاء نشاط موسكو البحري مواكباً للنشاط البشري بالمناطق الساحلية وميسراً لاندماج روسيا في الاقتصاد العالمي كونها أحد أهم الدول البحرية جغرافياً واقتصادياً وجيوسياسياً في أوراسيا.
والعامل الثالث فهو مكافحة القرصنة التي نشأت في الصومال عام 2008، إذ عززت روسيا وجودها البحري واهتمت ابتداء بمضيق باب المندب كمحاولة لكسر العزلة الدولية المفروضة حولها، وتزامن ذلك مع إرسال فرق عمل دولية بحرية إلى خليج عدن، وفي سبتمبر (أيلول) من العام ذاته أعلنت روسيا التدخل العسكري خارج أراضيها لحماية المواطنين الروس، فمنحت روس القرم جوازات سفر روسية وكانت البداية لضم القرم في مارس عام 2014، مما شكل دافعاً لبقائها في خليج عدن على رغم تضاؤل تهديدات القرصنة، واستمرت باستخدام قواتها البحرية لتعزيز دبلوماسيتها البحرية.
أما العامل الرابع فكان التنافس على إنشاء قواعد عسكرية في منطقة القرن الأفريقي بين قوى دولية عدة، مما زاد هواجس الحرب البحرية لدى موسكو خصوصاً أن النشاط البحري لروسيا مثل النشاط الصيني يتسم بطابع دائري يتجاوز البر الرئيس للدولة إلى نشاط الشركات البحرية بمناطق عدة من العالم، لا سيما تلك التي تتزايد فيها الاضطرابات الجيوسياسية والمنافسة الاقتصادية.
اضطرابات جيوسياسية
وتنبع أهمية هذه القاعدة من أن روسيا عمدت خلال السنوات الماضية إلى إظهار سياستها البحرية متعددة القطاعات في المحيط العالمي بالتركيز على مناطق جغرافية مهمة، منها المحيط الأطلسي والقطب الشمالي والمحيط الهادي وبحر قزوين والمحيط الهندي والقطب الجنوبي ومنطقة البحر الأحمر.
وتتجه روسيا كذلك إلى زيادة عدد المناطق الرئيسة في المحيط العالمي عبر “إستراتيجية تطوير النشاط البحري للاتحاد الروسي حتى عام 2030” والتي دخلت حيز التنفيذ عام 2019، وإذا أقيم مشروع القاعدة العسكرية الروسية في السودان فستكون أول قاعدة عسكرية روسية في أفريقيا منذ تفكك الاتحاد السوفياتي، لكن الاضطرابات الجيوسياسية المتزايدة والمنافسة الجغرافية الاقتصادية تقيدان الوجود الروسي.
وسيعود الاتفاق على روسيا بفوائد جمة،بحسب اندبندنت ونظرياً يمكن أن تتحقق الفائدة للسودان من واقع خبرة موسكو بالطاقة والمواد الخام ونشاطها في تنفيذ المشاريع البحرية الموجهة والاتجاه الإيجابي في صناعة صيد الأسماك الروسية المتمركزة بشكل أساس في مياه المحيط الهادي الروسية، إذ يتوافق النمو متعدد الأبعاد للنشاط البحري مع الديناميات الإيجابية لصناعة بناء السفن الروسية التي تجمع بين أكثر من 150 شركة، تقع في المقام الأول داخل التجمعات الحضرية الساحلية الكبيرة مثل سانت بطرسبورغ وفلاديفوستوك وكلينينغراد وغيرها، ولكن من الناحية العملية فإن من غير المتوقع أن يحقق الفائدة المرجوة للسودان، إذ من غير المرجح أن يحقق مكاسب اقتصادية كبيرة لأن طابع القاعدة عسكري، ولأن هناك دولاً أخرى منافسة تبدو شروطها أكثر معقولية، كما أنها تراعي مبدأ “الكل رابح”، وشرط الربح هذا تذيبه موسكو في خضم تعاملات واتفاقات أخرى بمواقع بعيدة من القاعدة مثل استخراج الذهب وقوات “فاغنر”.
كما تقف في وجه ذلك بعض التحديات النابعة من شروط الاتفاق وهي نزوع روسيا نحو فرض خريطة الولاية القضائية البحرية والحدود البحرية كما تحاول في مناطق أخرى من العالم وغيرها، وبينما ينتظر السودان موافقة برلمانية على قيام القاعدة فإن ذلك لن يتحقق خلال الوقت الراهن لعدم وجود مجلس تشريعي، كما لا يتوقع أن يوافق البرلمان على فرض روسيا شروطها من دون أن يكون للسودان أي تدخل في منطقة القاعدة.
الخرطوم(كوش نيوز)