:: قبل الثورة، في موسم الخريف، عندما تحاصر السيول والأمطار والفيضان القرى والأحياء، كان من نلقبهم بالمسؤولين يهرعون إلى المناطق المنكوبة بمروحياتهم وعرباتهم.. وهناك يرفعون بناطيلهم وجلاليبهم – لحد الرُكبة – ويخوضون في مياه الأمطار والسيول أمام كاميرات الإعلام لبعض الوقت، ثم يعودون إلى منازلهم الآمنة، أو هكذا كانوا يتعاملون مع الخريف ومخاطره، أي بالخوض في المياه..!!
:: وقد تم تطوير الفكرة، بحيث يشمل الخوض النفايات أيضاً، وليس مياه الأمطار فقط، وذلك بمظان التعامل معها كما يجب.. فالشاهد، انتشرت بالأمس صور ومقاطع فيديو لرئيس المجلس السيادي ووالي الخرطوم وآخرين وهم يخوضون في نفايات إحدى مناطق الخرطوم، تحت مسمى البرنامج الأسبوعي لنظافة الخرطوم، تحت شعار (نحو عاصمة نظيفة)، وقالت الأخبار إنها حملة راتبة، موعدها الأربعاء من كل أسبوع..!!
:: وعليه، لم نتخلص من الأفكار السطحية المراد بها إلهاء الرأي العام بحيث لا يطالب بالحلول لقضاياه.. فالخوض في مياه الأمطار لا يختلف عن الخوض في نفايات الخرطوم من حيث المشهد المراد به (شو إعلامي)، وليس الحل الجذري.. وقبل الأربعاء القادم، موعد حمل المكانس بغرض التصوير، على من نلقبهم بالمسؤولين التفكير في تطوير جمع النفايات، ثم التخلص منها، بحيث تكون ذات جدوى..!!
:: لو كانت السلطات المسماة بالمسؤولة وراشدة وحريصة على نظافة الخرطوم وغيرها من مدن السودان، لتركت أمر النظافة للشركات، واكتفت هي بتشريع القوانين، ثم الإشراف والرقابة والمحاسبة.. فالعالم يضج بشركات النظافة المتخصصة وذات الخبرة والتجارب المثالية، ولكن لن تفتح السلطات الحكومية فرص العمل للشركات المتخصصة، لأن رسوم النفايات أهم من النظافة..!!
:: وليست النظافة فحسب، بل كل الخدمات في الدول ذات الأنظمة الراغبة في خدمة مواطنها، تقدمها مجموعة شركات يتم اختيارها بشفافية ونزاهة، وحسب معايير الجودة والسعر.. ولكن في دولتنا، فالحكومة تسيطر على كل الأشياء، بما فيها (المكانس).. وعندما تتمسك الحكومة بالنظافة عبر هيئتها الكسولة، فهي لا تفعل ذلك حباً في خدمة المواطن، ولكن حباً في الرسوم التي يتهرب منها السواد الأعظم..!!
:: نعم، فالسواد الأعظم لا يدفع رسوم النفايات، ولهم التبرير المقنع لذلك.. تجويد الخدمة هو الدافع للمواطن ليدفع كل أنواع الرسوم والضرائب طوعاً، ولكن حين تكون الخدمات متردية، يبقى السؤال المشروع لماذا يدفع؟.. ثم إن تردي صحة البيئة بالخرطوم، وكل مدن السودان، مرده عدم وجود خطة شاملة لكل مراحل النظافة، كما يحدث في كل دول العالم، وهي الجمع والنقل ثم التدوير، بحيث تتحول إلى منافع للناس والبلد..!!
:: ولكي تكتمل المراحل، كل المطلوب هو تقزيم مهام الحكومة بحيث لا تتجاوز تشريع القوانين ثُمّ تطبيقها، مع فتح فرص العمل للقطاع الخاص، وهذا ليس في مجال إصحاح البيئة، بل في كل مَرافق الخَدمات ومواقع الإنتاج.. نعم، ما لم يتم تقزيم سلطة الحكومة وتقوية سلطات المُجتمع (القطاع الخاص)، فلن يرتقي الشعب بحيث يتجاوز طموحه العيش في مناطق خالية من النفايات، ولن يتخلى المسؤول عن نهج (السواقة بالمكانس)..!!
صحيفة اليوم التالي