قبل سنواتٍ وعندما كانت أجهزة الاتصال “الموبايل” لا تزال حديثة عهد بالأسواق، سُرق مني جهاز “الموبايل” من داخل مكتبي .. لكن السارق ترك لي “الشريحة” وأخذ الجهاز فقط، لحظتها رويت الحادثة لأحد الأصدقاء فعلق بجملة ظلت منحوتة في ذاكرتي، قال لي (السارق أعلن عن مستواه الثقافي!)..
وطبعاً يقصد أنَّ السارق أدرك أنه لن يستفيد من “الشريحة” فهو يريد قيمة الجهاز فقط، فاجتهد في تقليل خسارتي بتكبد مشاق فتح الجهاز وإخراج “الشريحة” التي تحتوي على قائمة أرقام من أتواصل معهم.. فهو بهذا التصرف يكشف مستوى ودرجة المعرفة والاستنارة لديه.
عملية “إشهار” المستوى المعرفي والإدراكي ألاحظها كثيراً في الوسائط الحديثة.. مثلاً.. عندما أكتب منشوراً في الفيسبوك أو “تويتر” وغالباً الموضوع قضية عامة تستحق الرأي والرأي الآخر، يلفت نظري أحياناً أن بعض المتداخلين يتركون الفكرة والموضوع الأساسي ويعلقون بعبارات تحمل إساءة شخصية أو أحياناً تهبط أكثر لمستوى الشتائم الصريحة السافرة.. ولا أتضايق أو أغضب من ذلك أبداً، بل ورغم أنَّ تطبيقات التواصل الاجتماعي تتيح فرصة حظر أصحاب مثل هذه التعليقات، لكن لم يدر في خاطري إطلاقاً فعل ذلك.. لسبب بسيط .. هو أنَّ التعليق في نظري “إشهار” من كاتبه لمستواه المعرفي أو منسوب الاستنارة لديه، لا أكثر! فالذي يلجأ للتجريح الشخصي عادة هو من يشعر بعجزه عن التفاعل في المستوى المعرفي أو العقلاني أو الموضوعي المطلوب.. صحيح مثل هذا الاستخدام لوسائط التواصل يقلل بعض الشئ من قدر الفائدة المرجوة منها، لكن في المقابل هو أمر لا يضر طالما أنَّ الغالبية الكاسحة تتفاعل بمنتهى الرقي نقداً أو قبولاً، مدحاً أو قدحاً.
ولكن من زاوية أخرى: يثير دهشتي حالة الفصل بين منصات التعبير، مثلاً سياسي مرموق، يتحدث في أجهزة الإعلام الرسمية بصورة رفيعة وعقلانية، لكن عندما ينفرد في صفحته في الفيسبوك أو تويتر أو غيرهما من وسائط التواصل، ينحني حتى يقصم ظهره بالخوض في قضايا تقذف كثيراً في المستوى الذي يظهر به إعلامياً.. بعبارة أخرى هناك من يعتقد أنَّ لكل وسيط شخصيته، وأنَّ المرء بحسب المنصة التي يتحدث فيها..
من نعم الله على الناس في هذا العصر وسائط التواصل، لأنَّها تمنح فضاءً حراً لا يقيده إلا الضمير.. ولكن من كفران النعمة أن تهدر قيمة هذه الحرية بخلطها بالإساءة..
صحيفة التيار