جعفر عباس

جعفر عباس يكتب: تنتحر أو تنفجر.. هي حرة

 

تصديق الناس معظم ما يصلهم عبر تطبيق واتساب وتداوله وكأنه نص مقدس، يجعلني استعيد فحوى رسالة واتساب وصلتني من عدة مصادر وتحوي صوراً حية أي فيديو لسيدة سوداء، تشتعل النيران في جسدها، ويحاول بعض المارة إنقاذها، والكلام المصاحب للصورة يقول إن تلك السيدة تقدمت بطلب إلى السلطات البلجيكية، لنيل رخصة لإقامة محل تجاري في وسط مدينة لكسمبورج، وعندما رفضت السلطات الطلب وقفت في شارع رئيسي، وأشعلت النار في ملابسها، (لماذا أحرق بلجيكيون سيارات الشرطة واعتدوا على المرافق العامة عندما خسر منتخب بلادهم مباراته امام المغرب مؤخرا؟ هل كانت الحكومة هي التي خاضت المنافسة؟)، المهم، كان التعليق المصاحب للصورة المتداولة على نطاق واسع يقول: انظروا كيف يستميت الناس دفاعاً عن حقوقهم بينما نحن نعيش في ذل وهوان، وندعو بالخير لمن أذاقونا الذل والهوان.

شخصيا لم أتأثر بمشهد المرأة والنيران تلتهم ملابسها ولحمها لأنه كان من السهل عليَّ إدراك أن الصورة مفبركة ومركبة، ثم منذ متى صارت لكسمبورج بلجيكية؟ هذه دولة وتلك دولة أخرى (تذكرت المعلق الكروي العربي الذي كان ينثر الدرر خلال مباراة بين منتخبي بلجيكا والمكسيك لكرة القدم، وبعد خشونة متعمدة من أحد اللاعبين، وقف الحكم يتكلم مع لاعب مكسيكي وآخر بلجيكي، فقال المعلق: ما شاء الله عليه هذا الحكم. يحكي بلجيكي ومكسيكي، وما فات على المسكين هو انه لا توجد لغة بلجيكية أو مكسيكية).

ثم هب أنها كانت صورة حقيقية لتلك المرأة وهي تحاول الانتحار بحرق نفسها: ما الذي يحملني على التعاطف مع إنسان أخرق، أبله يتصرف بطفولية، ويعتقد أن حركة الكون ستتوقف إذا انتحر في مكان عام؟ وهل انتحارها حرقاً سيكفل لها الحصول على الرخصة؟ وهل السلطات البلجيكية أو اللكسمبورجية ملزمة بمنح رخصة تجارية لكل من يطلبها؟ دعك من كل هذا ولنتوقف عند التعليق المصاحب لتلك الصور، والذي يتضمن إشادة وإعجاباً بإشعال تلك المرأة النار في جسمها: «كيف يستميت الناس دفاعاً عن حقوقهم». هل الحصول على رخصة بفتح محل تجاري في موقع معين «حق» يجب أن تكفله الحكومات والقوانين؟ ثم لماذا الإشادة بالاستماتة (وهي كلمة مشتقة من الموت)؟.

في أبوظبي ظللت محروماً من رخصة قيادة السيارة لشهور عديدة لأن رجال المرور كانوا يتفننون في اكتشاف أخطاء في طريقتي في قيادة السيارة، فهل كان الإجراء الصحيح أن أقف عند النافورة العملاقة في كورنيش أبوظبي وأشعل النار في جسمي أو أقفز إلى مياه الخليج كي أحصل على تلك الرخصة التي كنت مقتنعاً بأنني أستحقها منذ الاختبار الأول؟

بيننا كثيرون يحملون جينات الداعشية يعتبرون القاتل بطلاً، والقتيل بطلا، وهكذا فإن المرأة تلك التي شرعت في الانتحار في شارع مزدحم (بافتراض أن المحاولة والصور التي شاهدتها لها كانت حقيقية) صارت رمزاً للاستماتة في الدفاع عن الحقوق! يذكرني ذلك بحماقات يرتكبها الأطفال لتسجيل «مواقف»، أي من باب الاحتجاج، أذكر أنني رفضت الطعام أكثر من مرة في طفولتي وصباي كوسيلة لـ «معاقبة» أمي أو أبي لأن طلباتي قوبلت بالرفض، وأذكر أن أمي كانت تحاول المرة بعد الأخرى إقناعي بتناول الطعام فأزداد عناداً، فتنصرف عني ثم يقرص الجوع أمعائي حتى أتلوى من الألم. وأعيش على أمل أن أمي ستكرر محاولة إقناعي بتناول الطعام، ولكن هيهات. كان ذلك زمان كان الناس يأكلون فيه كل ما يوضع أمامهم لعدم وجود ثلاجات، ولم تكن «كرامتي» تسمح لي باستجداء أمي لتعد لي طعاماً بديلاً لذلك الذي رفضته، فأضطر إلى المناورة والمداورة حتى أحصل (سراً) على بضع تمرات أو خبز حاف جاف أسكت به عقارب بطني. وقد توقف عيالي عن ممارسات تلك التكتيكات لأنه لو رفض الواحد منهم وجبة من باب الاحتجاج على أمر ما فإنني أبلغه بأنه محروم من الوجبة التالية أيضاً وممنوع من الاقتراب من الثلاجة.

 

 

 

 

صحيفة الشرق

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى