جعفر عباس

جعفر عباس يكتب: البقشيش صار رشوة مكشوفة

 

قرأت حكاية جميلة في عمود (نسيت اسم كاتبه) في صحيفة نسيت اسمها، عن رجل عربي كان في زيارة إلى بلد أجنبي لا يعرف شيئاً من لغة أهله، وقرر القيام بجولة في المناطق القريبة من الفندق الذي كان يقيم فيه، وعلى بعد خطوات من الفندق استوقفه صبي وطفق يبرطم بكلام غير مفهوم لدى السائح العربي، الذي استنتج أن الفتى يستجدي المال فمد إليه قطعة معدنية، التقطها الصبي فرحاً مبتسماً ثم ابتعد مسرعاً، وتجول الرجل لنحو ساعتين حتى كلت قدماه فقرر العودة إلى الفندق، وظل يمشي ويمشي دون أن يعثر على أثر للفندق، وحال حاجز اللغة دون استفساره عن موقع الفندق، فظل يهيم على وجهه أربع ساعات، وفجأة وجد الصبي المتسول أمامه فاستخدم الأسلوب العربي المعتاد للتخاطب مع الغرباء، وهو الفتك باللغة العربية: أنا في مسكين.. رجل مال أنا يعورني.. شوية بعد أنا في طيح.. واجد تعبان ولازم روح هوتيل الحين.. ست ساعة أنا ما في يأكل هَم هَم.. مي نو تاكسي منشان أنا ما يعرف أدريس (عنوان) مال هوتيل!! ولكن الصبي لم يفهم منه شيئاً، فاستخدم لغة الإشارة كي يفهمه أنه تائه وأنه يريد العودة إلى الفندق الذي يعرف فقط اسمه وليس عنوانه، فابتسم الصبي وأشار إليه أن يتبعه، وبعد نحو ساعة كان الرجل قد وصل مدخل فندقه، وإعراباً منه لتقديره للعون الذي وجده من الصبي، فتح محفظة نقوده ومد إلى الصبي مبلغاً كبيراً نسبياً، ولكن الصبي رفض قبول المبلغ وهو يرطن بلهجة غاضبة، فما كان من السائح العربي إلا أن زاد المبلغ المعروض على الصبي، الذي ازداد غضباً، واستمرت المزايدة مالا من جانب الرجل وغضباً من جانب الصبي، حتى جاء أحد العاملين في الفندق لفك الاشتباك، فشرح له الرجل ما كان من أمر إرشاد الصبي له إلى موقع الفندق وسخائه في مكافأته، وجشع الأخير في المطالبة بالمزيد، وتراطن الصبي وعامل الفندق الذي سرعان ما ابتسم وقال للرجل إن الصبي غاضب لأنك قدمت له مالاً، فهو يعتبر ذلك إهانة، ففي المرة الأولى طلب هو منك صدقة فأعطيته، وفي المرة الثانية سنحت له الفرصة لرد الجميل إليك بمساعدتك على العودة إلى الفندق، وهو يرفض المال نظير مساعدة «صديق»!!

ذلك الصبي متسول محترف، ويعيش على استجداء المال، ولكنه يحفظ الجميل ولم يتجرد من العواطف الإنسانية! هذه الحكاية التي نقلتها عن الصحيفة التي لا أذكر اسمها أثارت في ذهني تساؤلاً ظل يحيرني على مدى سنوات: لماذا نعطي الجرسون في المطعم أو سائق التاكسي أو عامل الفندق بقشيشاً نظير أداء عمله الذي يتقاضى عنه أجراً من صاحب العمل، وندفع نحن عنه المبلغ المطلوب بالكامل؟ طبعاً أدفع البقشيش في المطاعم وغيرها ولكنني أحس بالذنب لأنني أعتقد أن البقشيش نوع من الرشوة (ومن يدفعون بقشيشا كبيرا يبررون ذلك بأنهم يحصلون على خدمات خاصة وسريعة في زياراتهم اللاحقة للمطاعم)، ولأن البقشيش صار شبه إلزامي، فالفنادق والمطاعم الكبيرة تعطي الجرسونات رواتب بائسة وتقول لهم: البركة في الزبائن!! (رفع العاملون في سلسلة مقاهي كوستا كوفي قضية على إدارة الشركة التي كانت تقتطع لنفسها نسبة ثابتة من بقاشيش العاملين، وقضت المحكمة بتغريم الشركة قرابة 200 مليون دولار ليُعاد توزيعها على العاملين).

قضت الأقدار بأن تنجب زوجتي طفلنا الثاني في عاصمة عربية، وجاءتني ممرضة وطالبت بالحلاوة فمددت إليها طبقاً من الشوكلاتة لتتناول منه ما تشاء، ولكنها طالبتني صراحة بتقديم بعض المال لها، فصحت فيها: ليه؟ هل تقاسمت مع زوجتي أعباء الحمل وأوجاع الولادة؟ بمعنى ما هي مساهمتك في الحمل والانجاب؟ ثم أضفت: هي بنت! أي حلاوة وأي بطيخ، الوطن العربي محتاج لرجال يولدون بشواربهم! ونحن في السودان نلطم عندما نرزق ببنت (وهذه كذبة فنحن ربما الشعب الوحيد في المنطقة الذي يتفاخر فيه الرجال بالانتساب لبناتهم: أنا أبوكِ يا مروة/‏ فاطمة /‏ سلوى، ولسنا مثل البعض الذين يستعرون حتى من أسماء أمهاتهم).

 

 

 

 

صحيفة الشرق

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى