تحقيقات وتقارير

في جدوى استحقاق الاتفاق الإطاري السوداني

في المنعطفات الحرجة لمصائر الوطن، أحياناً، لن يكون التعبير عن السياسة في تصرفات القوى الحزبية كافياً بذاته للصدور عنها برأي سلبي مطلق، حيال جدوى السياسة في خطاب تلك القوى الحزبية، بحسب التهريج الذي تعكسه ردود فعلها، بل كذلك للصدور برأي يهجر اليقين بإمكانية أن يكون في تصرفات تلك القوى ما يضمر معنى أخلاقياً في مفهومها لفكرة الدولة، ناهيك عن فكرة الوطن، ذلك أن إدراك السياسة، هنا والآن، في مصير كالذي أصبح عليه الوضع في السودان هو في تقديرنا غير كاف لاستحقاق أن تنال تلك الكيانات الخرقاء مسمى منضبطاً أفرزته الأزمنة الحديثة كمسمى “حزب”، لأن ما تمارسه تلك الأحزاب من تهريج حيال التحديات الوجودية التي تواجه مصير السودان ذاته، هو مما ينطبق عليه مثل الشخص الذي يرى أفعى رقطاء في ثيابه الداخلية، فيما هو مشغول بألوانها اللامعة.

اليوم، يواجه الاجتماع السياسي للسودانيين فرصة أخيرة عبر الاتفاق الإطاري الذي ما زال مفتوحاً لتوقيع القوى السياسية الجادة، لكننا نرى في المواقف التي تبرزها قوى سياسية حيال ذلك الاتفاق تصرفات عجيبة وممارسات غريبة تردنا إلى ما أسلفنا عنه القول من أن كثيراً من القوى السياسية تعجز عن مطلق الوعي الذي يضمر اعتباراً أخلاقياً لمفهوم الدولة، ناهيك عن معنى الوطن.

هذا التعاطي العدمي في المواقف السياسية يتردد في تعبيراته لدى تلك القوى بين ثلاث حالات يمكن تلخيصها، أولاً في موقف ما سمي تحالف قوى التغيير الجذري الذي يضم الشيوعيين وتجمع المهنيين (الفرع الشيوعي) إلى جانب قوى صغيرة، وهذا التحالف يطرح شعاراً أكبر منه وهو التغيير الجذري الذي يلزم معناه إسقاط العسكر وتغيير الطبقة السياسية والعسكرية الحاكمة برمتها.

وبطبيعة الحال فإن موقفاً سياسياً عدمياً كهذا لن يجيب فيه دعاة أطروحة التغيير الجذري إجابات وافية عن كيفية لخريطة طريق للعمل على إسقاط العسكر والطبقة السياسية برمتها؟ أي إجابات لأسئلة من قبيل، ما هو المنهج المحدد والمفصل لخطة كهذه تهدف إلى تغيير جذري في بنية الدولة السودانية؟

قصارى إجابتهم العمل الثوري والتعبئة المستمرة، كما لو أن الثورة هي تظاهرات أبدية لا نهايات سياسية لها وبلا آفاق للحلول.

وكما تساءلت الكاتبة السودانية رشا عوض في توصيفها الدقيق لحال تحالف قوى التغيير الجذري وفي نقدها الموضوعي لأطروحتهم حين واجهتهم بأنهم لكي يحققوا التغيير الجذري، إما أن يكون لهم، كقوى تسعى إلى التغيير الجذري، جيش حزبي قوي مواز للجيش السوداني وقوة الدعم السريع، بل متفوق عليه، لكي يكونوا قادرين على إحداث التغيير الجذري، وإما أن ادعاء تحالف التغيير الجذري ذاك الشعار وتبنيه، ادعاء لا يسنده واقع ولا تدعمه حقيقة موضوعية من حقائق التغيير السياسي.

إن من يدعون القدرة على إحداث تغيير جذري كالشيوعيين في واقع معقد لسياسة سودانية تكلست اليوم بسبب امتناعات كثيرة من دون استصحاب آليات الطبيعة السياسية للتغيير والرؤية العقلانية التي تحدد للسياسة استصحاب اعتبار المتغيرات والفكر الذي يقرأ الواقع في حدود الممكن السياسي والتحولات الظرفية محلياً وإقليمياً ودولياً وتدبر العمل وفق موازين القوى التي يتم التعامل معها بعقلنة تستصحب المصالح المشتركة، هم فقط باعة أوهام مهما اتشحوا بالشعارات والهتافات والأناشيد.

وللأسف ثمة منهم من يغرر بكثيرين من الثوار في لجان المقاومة بتلك الأطروحة الممتنعة في وقائع السياسة السودانية اليوم.

اعتراض الحركات المسلحة

أما الحركات المسلحة التي اعترضت على الاتفاق السياسي الإطاري حتى الآن مثل حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم وحركة تحرير السودان بقيادة مني مناوي، فهي حركات للأسف نسيت في نشوة السلطة التي حظيت بها في حكومة المرحلة الانتقالية السابقة، أنها حركات لولا هذه الثورة العظيمة التي قام بها الشعب السوداني، لما أمكنها حتى لو قاتلت لعشرات السنين إسقاط حكم عقائدي شمولي كحكم الإخوان المسلمين.

لكن تلك الحركات وفي غمرة نشوة السلطة التي وجدتها في ظل حكومة المرحلة الانتقالية قبل الانقلاب ونتيجة لطبيعتها العسكرية، طمعت أكثر فأيدت انقلاب العسكر كي تتقاسم معهم كعكة السلطة خلال انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 الذي أخرج المدنيين من السلطة، وكانت تلك خيانة واضحة للثورة التي أوصلت تلك الحركات المسلحة إلى قمة السلطة.

اليوم تعارض حركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان الاتفاق الإطاري لأنه يحرمهما من مكاسب سلطة تطمحان إلى حيازتها، لا سيما أن الاتفاق ينص على أن تدير المرحلة الانتقالية المقبلة حكومة كفاءات وطنية مستقلة.

فالحركات المسلحة في اتفاق جوبا للسلام 2020 اعترضت على بند الوثيقة الدستورية الذي ينص على أن تتولى المرحلة الانتقالية “حكومة كفاءات وطنية مستقلة”، فحذفت كلمة “مستقلة” لكي يتم السماح لها بالمشاركة في السلطة السياسية لحكومة المرحلة الانتقالية.

وللأسف هذا التصرف الذي تبديه حركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان لا يعكس روح المصلحة الوطنية ولا يعبر عن إدراك للخطر الذي ربما ينفتح عليه المآل المصيري المرتقب للسودان حال فشل الاتفاق الإطاري المرتقب.

إن إشكالية الحركات المسلحة للأسف تكمن خطورتها في أنها حركات تطرح أزمات جديدة أمام المستقبل السياسي لسودان ما بعد الثورة، في ظل تصوراتها المأزومة لمنطق السلطة القائم على مفهوم الحيازة والغنيمة.

وهو أمر يردنا إلى حقيقة الخطأ الأساس الذي خاضت من أجله تلك الحركات كفاحها ضد السلطة المركزية في الخرطوم عبر حمل السلاح في وضع سياسي كان يستدعي بديلاً آخر في إدارة الصراع مع المركز، ليجد السودانيون أنفسهم اليوم بعد الثورة أمام مأزق تلك الحركات وإعاقتها للاستقرار السياسي الذي تسعى إليه القوى السياسية السودانية عبر الاتفاق الإطاري المرتقب تحوله إلى اتفاق نهائي بنهاية يناير (كانون الثاني) 2123.

بطبيعة الحال نتحدث هنا عن حركتي مناوي وجبريل، آخذين في الاعتبار الموقف المتميز والروح الوطنية اللذين تمتعت بهما الجبهة الثورية التي تضم ثلاث حركات مسلحة يقودها الهادي إدريس والطاهر حجر ومالك عقار الذين هم ضمن الموقعين على الاتفاق الإطاري مع بقية القوى السياسية الأخرى التي تضم قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) وقوى الانتقال.

معارضة المجلس الأعلى لنظارات البجا

أما الشق الثالث الذي يرفض الاتفاق الإطاري وإن بدا بعض منه متحالفاً مع مجموعة “الكتلة الديمقراطية” مثل المجلس الأعلى لنظارات البجا جناح ترك إلى جانب المجلس الأعلى لنظارات البجا جناح إبراهيم أدروب (ما عدا أحزاب أخرى من شرق السودان)، فمجلسا البجا كيانان مأزومان أزمة مركبة.

فمن ناحية هما كيانان يمارسان السياسة بمنظور قبائلي مدمر للسياسة ومعطل لإمكاناتها، ومن ناحية ثانية تنطوي رؤية المجلس الأعلى لنظارات البجا بجناحيه على نظرة عنصرية إقصائية قائمة على نفي مكونات بجاوية أخرى من شرق السودان.

لهذا فإن المجلس الأعلى لنظارات البجا بجناحيه، فضلاً عن كونهما يعبران عن وعي مأزوم بعقلية التأطير القبائلي للسياسة والنظرة العنصرية، فإن جميع تصرفات وتصريحات رموز وقيادات مجلسي البجا تعكس بوضوح عدم أهلية قادتهما للاضطلاع بمهمات إدارة السياسة والسلطة في شرق السودان.

لذا نرى أنه من الأهمية بمكان أن تدرك القوى السياسية في المركز حقيقة مهمة وهي أن أي إدارة مستقبلية جادة لحل مشكلة شرق السودان لا بد من أن تندرج في الأساس ضمن مهمات سياسات دولة رشيدة لتوزيع الفرص العادلة في مجال التنمية المستدامة وتحت بند التمييز الإيجابي لأن أصل المشكلات في شرق السودان هي مشكلة غياب التنمية المتوازنة والحرمان من سياسات التمييز الإيجابي، أكثر من كونها مشكلات كيانات قبائلية تمارس لعبة سياسية خطرة بمنظور القبيلة.

كما أن على القوى السياسية في المركز، تلك التي ستقوم على تدبير المستقبل السياسي للسودان حين يصار إلى حكومة وطنية انتقالية، التعامل بكل جدية مع كل ما يمنع من ارتفاع الأصوات العدمية الداعية إلى فصل شرق السودان من طرف مجلسي البجا، مع التركيز، في الوقت ذاته، على تكثيف موازنات التنمية وتوزيع الفرص وسياسات التمييز الإيجابي بوتائر حقيقية ومتسارعة لمواجهة دعوى مجلسي البجا بفصل الشرق التي يرفعانها أمام سلطة في المركز لا تعلم على الأرجح حقائق الأمور في شرق السودان.

ثمة علاقة عضوية شديدة الأهمية بين فشل سلطة الثورة في الخرطوم وتأثيرات شرق السودان في ذلك، فشرق السودان، في تقديرنا، ينبغي أن يكون أهم ملفات حكومة المرحلة الانتقالية المقبلة لأنه في حال انفصال شرق السودان أو إغلاقه لأي سبب من الأسباب، فإن المشكلة التي ستواجه شرق السودان والبلاد كافة هي أزمات الفشل الكارثي التي سينطوي عليها أي حراك مستقل للبجا في الشرق بغياب سلطة الدولة السودانية عليه، نظراً إلى موقع الشرق الجيوستراتيجي، الأمر الذي يجعله عرضة لأجندات جيوسياسية عدة.

فخطاب المظلومية الذي يرفعه “البداويت” عبر مجلسيهما لا يعكس تعبيراً سياسياً حصرياً في تمثيل “البداويت” ولا حتى تمثيل البجا بصورة عامة، وإذا ما ظن بعضهم في المركز أن ما يرفعه بعض “البداويت” عبر مجلسيهما من خطاب مظلومية محقة في أساسها التاريخي هو استحقاق لجميع البجا، فسيكون واهماً لأن البجا مسمى لجميع المكونات البجاوية في شرق السودان، فيما الخطاب السياسي العنصري لمجلسي البجا ينفي حتى استحقاق مسمى البجا عن مكونات بجاوية أصيلة في شرق السودان كمكون البجا “بني عامر والحباب” الذين تقع مناطقهم في أقصى التخوم الشرقية لشرق السودان.

ولا نعدم أن يكون هؤلاء خميرة مستقبلية لمعارضة بجاوية أخرى، إذا ما تعامل المركز في الخرطوم مع قادة مجلس البجا بقسميه كممثلين للبجا فقط لأنهم الأعلى صوتاً!، ذلك أن نمط التفكير الذي يضمره هؤلاء كوعي منفصل عن مبادئ وقواعد السياسة ومقاربتها بوعي قبائلي هو النمط الأخطر على الاستقرار السياسي في شرق السودان.

إن الجهل المتطاول والتجاهل المستمر لمشكلات شرق السودان الحقيقية هما اللذان يوقعان المركز في الجري وراء حلول ناقصة حين يظن ذلك المركز أن من هم الأعلى صوتاً كـأصوات مجلسي البجا هم الأولى بالترضية من دون أي جهد وطني يطمح إلى حل صادق لمشكلة الشرق يشمل جميع البجا ومواطني شرق السودان كافة.

الخرطوم(كوش نيوز)

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى