آراء

عبد الحفيظ مريود يكتب: مهنية في زمن الغربة والارتحال

 

زميلنا الصحفي الأكثر تفلسفاً في المؤسسة، تم ترشيحه لدورة متقدمة في تونس ينظمها اتحاد إذاعات الدول العرببة، حول “التحقق من الأخبار الإلكترونية”.. حين عاد، زاد تفلسفاً، نشر خبراً لفحه من موقع ما، عن إعفاء محافظ بنك السودان، ولم يكن الخبر مؤكداً، وأغلب الظن، اعتمد الموقع الإخباري على مصدر موثوق، لكن المصدر زاغ، حين جد الجد..

كان الملف “أمنياً”، بامتياز.. فقد رأى جهاز الأمن والمخابرات الوطني – ضمن هلوساته المزمنة – أن من قام بـ”شتل” الخبر تقف وراءه “جهات معادية للسودان”.. تمت جرجرة المسؤول عن الموقع، ومدير مؤسستنا، من علق على الخبر أو تناوله في سياق مقال أو تحليل

مديرنا شكل لجنة تحقيق، اللجنة التمست رأيي، لعامل السن، لا أكثر، فأوضحت أن المحرر تسرع، بلا مسوغ، لا سيما وأن الخبر ليس انفراداً، بل نقل عن موقع، حاز السبق الصحفي، وبالتالي كان على المحرر أن يتريث مستوثقاً،

اضطر الزميل المتفلسف أن يستقيل، في المهنة التي يصفها أساطينها بأنها “مهنة البحث عن المتاعب”، لا يستقيم أن تبحث عن النجومية الكاذبة، فالقيود التي تطوقك – مهنياً – مثل تحري الدقة، المصداقية، الاقتباس المنضبط وغيرها، هي عدو للنجومية.. كما أن التباطؤ، الانحياز، الغرض هي مقاتل مؤكدة.

شايف كيف؟

بعض دقة الوكالات، حين تعطي خلفية لخبر يتعلق بالرئيس المعزول عمر البشير تذهب إلى أنه “.. عزلته قيادة الجيش، بعد ثلاثين عاماً من الحكم، على خلفية احتجاجات سلمية واسعة، انتهت بالاعتصام أمام القيادة العامة”.. وهي صياغة لا يجرؤ صحفي سوداني – على الأقل خلال السنوات الثلاث الماضية – على ارتكابها، مع أنها دقيقة حد الخيال، وذلك لأنها تتعارض مع المزاج العام السائد، والذي قد يجرم المهنية ويركلها، هي وصاحبها بعيداً.

لو أنك ناقشت صحفياً ملتزماً بالثورة وأهدافها، ستجده منكراً للصياغة، أعلاه، حد الشتيمة، ذلك أنها صياغة تعطي “قيادة الجيش” فعل “عزل الرئيس البشير”، وليس الثوار، فالمارشات العسكرية، البيان الذي سيذاع، بعد قليل، إعلان العزل، القبض على “رأس النظام”، وغيرها هي أفعال قامت بها قيادة الجيش.. وكان يمكن – لو لم تشأ – أن تظل “الثورة” مواكب، اعتصامات فرعية، مظاهرات، مخاطبات… الخ، حتى الآن، تجوس خلال شوارع الخرطوم وأزقة أمدرمان، وحواري بحري الجميلة، بمثلما جرى فض الاعتصام، وتشتيت “الكورة” للمواكب والاعتصامات اللاحقة.

شايف كيف؟

القانونيون يعرفون أن ما يقوله نبيل أديب، بشأن جريمة فض الاعتصام دقيق ومهني إلى أبعد الحدود، لكنه كلام لا يعجبهم، فثمة فيديوهات وشهادات تقول إن القوة التي قامت بذلك، ترتدي زي الدعم السريع، ويجب تقديم أفرادها، فوراً، للمحاكمات.. لن يتم الأمر – من حيث الإجراء والموضوع – بالطريقة التي ناقشت بها الشابة الغضة، نبيل أديب، في الفيديو المشهور؟ هل يمكن إثبات كل شيء – قانونياً – فقط لأننا نريد ذلك، ونستعجله؟

شايف كيف؟

في صحافة وإعلام اليوم، يمكن أن يموتفنان، نجم كروي، سياسي… الخ، مائة مرة خلال العام، بسبب خبر “مشتول”. كما يمكن لآلاف الصفحات والتعليقات والمقالات أن تظهر، لأن شخصاً ما، نشر أن حمدوك وافق على عودته رئيساً للوزراء.. هل تكفي دورات محدودة عن “التحقق من الأخبار الإلكترونية” أن تعيد للخبر، للصحافة والإعلام، بعض هيبة ومهنية ومصداقية؟

لا أظن ذلك.

فالإعلام الحديث، حسب المصطلح، أصبح مثل “غنا القونات”، في مقابل “غناء ناس اتحاد الفنانين”.. سوقه حار جداً.. وجمهوره في تزايد مخيف، إلى درجة أنه سيأتي على الناس زمان، لا يعرفون فيه محمد وردي، أو الأساطين الراسخين.. وتخرج كلية الموسيقى والدراما “علماء موسيقى” معزولين عن “مجتمعهم”، فالقونة والقون، لم يتركا لهم مستمعين.

شايف كيف؟

وقد كتب محمد عبد الحي، الشاعر الفذ :

اِدرك قصيدك من فوضى تلاحقه*

فالعصر عاهرة سكرى بتجديد

مع أن عبد الحي، يرحمه الله، لم يبلغ زماننا هذا، حيث صارت القصيدة عصيدة سيئة الدقيق ونيئة، تماماً.. وقد ورد في الأثر، أنه سيأتي على الناس وقت، في آخر الزمان، يقولون إننا أدركنا آباءنا، وكانوا يقولون كلمة لا نجد لها معنى، كانوا يقولون “لا اله إلا الله”.. فافهم ذلك، أيدك الله، وسدد خطاك.

تخطو الحياة، نحو خواتيمها مختلطة الحابل بالنابل.. ليست في كل عام ترذلون، مرتبطة بشيء محدد.. وإنما بكل شيء.. أدر نظرك يميناً ويساراً لتتأكد من أن كل شيء إلى رذالة وسفالة.. المهن جميعاً.. الأخلاق، التدين، المعرفة، الحب، العلاقات كلها، كل شيء.. وهل أوان الظهور إلا ذلك؟

 

 

 

صحيفة اليوم التالي

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى