زهير السراج يكتب: بماذا تفيد الدموع ؟!

 

 

* في صباح 14 مايو، 1964تم اغلاق المسار القديم لنهر النيل وتحويله ليصب مباشرة قبالة السد العالي بعد أن قطع العمل فيه شوطا يؤهله لبدء التحكم في مياه النيل، وكانت مناسبة كبيرة حضرها عدد من زعماء العالم وغاب منها الفريق (ابراهيم عبود) مما اثار الكثير من التساؤلات خاصة ان السودان تخلى عن جزء عزيز من اراضيه لتغمره مياه النهر وتغرقه الى الابد لصالح بناء السد العالي مقابل لا شئ تقريبا ما عدا قلة من المال لتشييد مدينة حلفا الجديدة في شرق السودان ليقيم فيها المهجرون من منطقة وادى حلفا التي ستغمرها المياه !

* يقول الكاتب الإنجليزي (توم ليتل) في كتابه بعنوان (إخضاع النيل لإرادة الإنسان) ــ ترجمة خيري حماد: “كان الرئيس عبود يتجه إلي بكين عندما تم تحويل النهر معتذرا عن حضور الإحتفال بحجة الإلتزام المسبق ببعض الزيارات الخارجية، ولكن يبدو أن الغياب كان متعمدا بسبب اخلال مصر باتفاقيتها مع الخرطوم فيما يتعلق بنفقات تشييد مدينة حلفا الجديد بأكثر من ثلثي المبلغ الذى إلتزمت به”.

* ومما زاد حنق الفريق (إبراهيم عبود) وحكومته هو إكتشافهم أن مصر ومنذ 1954ودون علم السودان أو التنسيق معه، كانت تجري إتصالاتها مع الهيئات الدولية وبلدان العالم لإنقاذ آثار النوبة الواقعة في الأراضي المصرية دون الإشارة أو التنسيق مع حكومة السودان، واحتج (زيادة أرباب) وزير التربية والتعليم السوداني قائلا بأن السودان لم يعرف إلا القليل عن مصير ومستقبل الآثار في الأراضي السودانية التي ستضيع تماما بعد أن تغمرها مياه السد العالي، رغم ان مصر كانت تعلم بذلك !

* لقد كان الوضع على الجبهة المصرية في موضوع الآثار أكثر إنضباطا وأنشط حركة في معركة إنقاذ آثار النوبة المصرية، حيث نشطت أجهزة الآثار المصرية منذ عام 1954قبل توقيع إتفاقية مياه النيل بخمس سنوات في إستقطاب العون الدولي عبر منظمة اليونسكو وتشكلت لجنة دولية لإنقاذ آثار النوبة المصرية، وحصلت مصر على 87 مليون دولار وتم إنشاء مركز حديث للدراسات والتوثيق قام بدراسة دقيقة لمعابد أبي سمبل والمناطق الأثرية وتصويرها وتسجيلها وتوفرت مجموعات عمل مصرية ومن إيطاليا والنمسا وبولندة وإسبانيا وفرنسا للعمل في جهود انقاذ الآثار المصرية.

* على الجانب السوداني ذهبت حكومة السودان فيما بعد تطلب من اليونسكو توسيع حملتها لتشمل الجزء السوداني من بلاد النوبة الذي يضم مواقع أثرية ذات أهمية تاريخية، ولم تكن هناك أية دراسات أجريت عليها فيما عدا عملية المسح والتصوير الجوي التي قادتها دائرة المساحة السودانية في عامى 1956 – 57، وحصل السودان على خدمات أحد خبراء اليونسكو لإعداد خارطة مصورة ولكنها إفتقدت إلي الأموال اللازمة لإعداد هذه الخارطة، وأوضحت اليونسكو أنه مالم يستخدم الوقت المتبقي قبل إغراق بلاد النوبة في الجانب السوداني، فلن يكون هناك ثمة أمل في تحقيق المزيد من الإكتشافات المهمة في السودان!

* ونسبة لضيق الوقت لم يتمكن السودان من انقاذ سوى (معبد بوهين) بعون بريطاني مقداره 8000 ج إسترليني ومعبد (أقشة) بدعم فرنسي ومعبدي (سمنة الشرقية وسمنة الغربية)، وكان الوضع أكثر مدعاة للحزن إذ لم تكن الحفريات قد أجريت ولو بصورة جزئية حتى عام 1960 إلا في عشرة مواقع فقط بطول 115 ميلا من جملة الأراضي السودانية التي ستغمرها المياه، وكانت الدراسات قد أثبتت أن هناك أكثر من (مائة) موقع يمكن التنقيب فيها، تضمنت سبعة مدن قديمة وأربعة معابد فرعونية وعشرين كنيسة وقبور حجرية تعود إلي عصر الأسرة الثامنة، فضلا عن عشرات المواقع التي تضم كنوز الحضارة النوبية السودانية التي غمرتها المياه تماما الأمر الذي إنقطعت معه الى الابد سلاسل تاريخية هامة كان يمكن أن تكشف العديد من صور التفاعل الحضاري بين أهل السودان في عصورهم الغابرة وصلاتهم مع الشعوب الاخرى عند إلتقاء الحضارات ومظاهرها على أرض النوبة السودانية.

* السؤال الذي يفرض نفسه: “لماذا قامت مصر بإخفاء مساعيها الدولية لإنقاذ آثار النوبة في الجانب المصري ولم تنسق مع السودان وتركته ضحية وقربانا للغرق في نهر النيل، وماذا تقول اليونسكو بشأن سلوكها غير الأخلاقي تجاه الكنوز الأثرية على الأراضي السودانية، ومما يزيد الوجع والحزن ان البحوث التي قام بها عالم الآثار العالمي”شارل بوانيه”، وامتدت إلي ما يقارب نصف قرن من الزمان اثبتت ان (الحضارة الفرعونية السوداء عندما نشأت في السودان لم تكن مصر الحالية معروفة على خارطة الزمان)، ولكن ضاع كل ذلك وللابد ؟!

* كان ذلك جزءً من مقال طويل للمؤرخ والكاتب الكبير (شرف الدين أحمد حمزة) كتبه بألم ودموع عن اثار السودان التي ضاعت الى الابد، ولكن بماذا تفيد الدموع ؟!

 

 

 

 

صحيفة الجريدة

Exit mobile version