جعفر عباس

جعفر عباس يكتب: تمردي كان حميداً نسبياً

أقر وأعترف بأنني وعندما كنت شاباً “جداً” بمعنى أنني شاب الآن ولكن لست “شابا جدا”، كنت أمارس التمرد “على خفيف”، وأذكر أنني حتى خلال عملي مدرساً في ثانوية حكومية، فشل مدير المدرسة في إرغام الطلاب على قص شعورهم، فكلما زُجر طالباً لأن شعره طويل وصاح فيه: مش عايز أشوفك بالشعر ده! رد عليه الطالب: أحلق شعري لما يحلق أستاذ جعفر، فقد كنت طويل الشعر، ليس بالضرورة مجاراة لموضة الخنفسة (آفرو) التي كانت سائدة وقتها، ولكن غالباً لأنني كنت وما زلت وكما أخاف من كرسي الأسنان، أكره الجلوس تحت رحمة الحلاق، خاصة أنه حدث لي مرتين أن رأيت مجموعة من القمل تمشي على فوطة الحلاقة الملتفة حول رقبتي، وخرجت في الحالتين من دكان الحلاقة وشعر رأسي “زقزاق” ومطبات اصطناعية لعدم اكتمال الحلاقة، (كان ذلك بالطبع لأنني كنت أرتاد صالونات تقص الشعر بسعر التكلفة).
وحاول مدير المدرسة مراراً إقناعي بضرورة تقصير شعر رأسي، حتى يتسنى له إرغام الطلاب على قص شعورهم، ولكنني كنت أقول له إنني أحترم اللوائح، وإنه ليس فيها نص يرغم المدرس على قص شعره، وقد أعطاني المسكين أكثر من مرة جنيهاً كاملاً، في زمن كان فيه الجنيه السوداني يساوي أكثر من دولارين، كي أقصّ شعري، فكنت أقصه على خفيف بعشرة قروش وأوفر تسعين قرشاً، أقيم بها وليمة للمدرسين (وكان ذلك المبلغ كافياً لوليمة إفطار مدرسية فاخرة)، وكلما شكرني المدرسون “زملائي” همهم المدير بما معناه “مسوي حالك فنجري وكريم بفلوسي يا بربري”! والكلمة الأخيرة صفة تطلق علينا نحن النوبيين في السودان ومصر، وكما هو واضح من لفظها ومعناها فإنها تنم عن التعالي العرقي، ولا بأس في ذلك لأن ذلك يؤهلنا لطلب الحماية الأمريكية! ولبست فينا تهمة البربرة باعتبار أن ألسنتنا تبربر بكلام يعتبره من يحسبون أنفسهم عربا في السودان أنه غير مفهوم.
ثم – سبحان الله – دارت عجلة الزمان، وغادرت الشباب وغادرني جزئيا، وأصبحت أباً، ديمقراطياً متحضرا، ولهذا لم أسمح لأحد من عيالي بمجرد التفكير في قص الشعر حسب الموضات البلهاء (في نظري) السائدة هذه الأيام… تقترب من عبودي ابن صديقك حمزة وتقول له: سلامتك… فشكله يحنن قلب الكافر… رأسه ملساء من جهة… وبها تناتيف من الجهة الأخرى وتتوسط كل ذلك كتلة من الشعر، لا تتحرك وكأنها مثبتة بالجبس… لابد أنه أصيب بجرح في رأسه استوجب العبث بشعر رأسه لتنظيف الجرح وخياطته! وربما كان مصاباً بمرض جلدي… ولكن عبودي ينظر إليك بمزيج من الدهشة والاستنكار والاستخفاف، وكأنك ديناصور تم استنساخه، ويبلغك أن تلك القَصَّة كلفته نحو أربعين دولاراً! أما إذا رأيتُ رجلاً يعقص شعره بالطريقة المسماة ذيل الحصان، فتنتابني نزعات شريرة، وأود لو أسحبه من ذيله ذاك وأظل أجره حتى يتبادل وجهه وقفاه المواقع!
​وأحياناً أجد نفسي في مدن تحرص فيها بعض البنات على الكشف عن بطونهن، ولو مرت بك بنات من هذا الصنف، ومن باب الحياء، لم تدقق في الوجوه، بل اكتفيت بالنظرة الأولى إلى المنطقة الوسطى من الجسم، سترى أن كثيرات منهن يضعن حلقات معدنية حول السُّرَّة، وقد تكون تلك الحلقات أقراطا أو خواتم! هذا، بصراحة، فساد ذوق محض (دعك من أنه أشياء أخرى لا تأبه لها تلك الفصيلة من الكائنات)… أولاً السُّرَّة تشبه تجويف الأُذن وفتحة الأنف، ومن ثم فهي أبعد ما تكون عن “الجمال”، هل سمعتم شعراً يمجد فتحتي أنف أو أُذن الحبيبة: منخارها ماسورة رائعة البهاء… يا ليتني قطعة شمع ذائبة/ في أذنها الطرشاء! هل من حق جيل الشباب المعاصر أن يتمرد كما تمردت أنا بإطالة شعري؟ سؤال سخيف، فشعري الآفرو لم يكن يندرج في بند العورة، بينما كثير مما يفعله بعض الشباب المعاصر ليس من قبيل التمرد الملازم لمرحلة الشباب، بل نتاج ثقافة التغريب والضباب!

 

 

 

 

 

صحيفة الشرق

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى