آراء

محجوب مدني محجوب يكتب: الديمقراطية بين الترف والضرورة

كان المسلمون في كل بقاع العالم لا يركضون خلف المفاهيم الغربية، وكانوا لا يعتدون بها.
كان كل همهم أن يتفرغوا لعبادتهم المحصورة بين البيت والمسجد، والتطلع إلى أداء فريضة الحج خلال العمر.
كانوا لا يكترثون بالسياسة ولا بأهلها.
كانوا يجلون مشايخهم وعلماءهم أكثر من حكامهم، ولم تكن لديهم أدنى رغبة في مجالسة حكامهم أو مقابلتهم، وحينما يعلن عن زيارة مسؤول حكومي يحملون هم ضيافته ومقابلته إلى أن تكتمل الزيارة، ويمكن أن يعدوا عدة مطالب خلال زيارته من مثل ترميم مدرسة أو إنشاء مركز صحي أو حفر بئر وغيرها من المتطلبات التي يعتقدون أن إنشاءها لا تتم إلا عبر الحكومة، فإن حققتها لهم فبها ونعمت، وإلا فسوف ينسون الأمر وسوف يرددون بأنهم ليس لديهم قسمة ونصيب.
تطورت الحياة وتعقدت، ولم يعد ينظر للحكومة كسابق عهدها لعدة أسباب منها:
* تطور المجتمعات وتسلل المدنية لها جعلها تنظر للحكومة بمنظار مختلف، فنظرة الراعي ونظرة المزارع ومن ثم نظرة المهني، فكل هذه النظرات للحكومة تختلف من حيث مكانتها، ومن حيث وظيفتها نحوهم.
بل إن الراعي لم يعد كالسابق، فراعي اليوم وصله المصدرون في مكانه، وبالتالي صار واعيا بمنتوجه ويتابع الأخبار، فإذا تحسنت علاقة بلده بالدول المستوردة لمنتجه، فهذا يعني أن سعر منتجه سوف يكون حاضرا ومنتعشا في السوق، وإن ساءت علاقة بلده بتلك الدول، فسوف يقدر حجم هذه العلاقة وزمنها حتى يربط ذلك بسعر منتجه، ووسط كل ذلك صار يتعرف على قيمة الدولار، ويتعرف على حركة الصادر وانسيابها عبر الموانئ، وصار حمل الهاتف النقال لديه مهما كما دخل في صنعته كثير من المتعلمين وتجار المدن، واختلط بهم وعرف قيمته وقيمة منتجه.
جملة القول أن الحياة اليوم لا يمكن بحال من الأحوال أن تقارن بالأمس، وبالتالي النظرة تجاه كل المكونات لا بد أن تختلف.
* كان يظن المواطن في السابق أن صراع السلطة لا يتعدى الكبار، وبالتالي فإن حكمه أحمد أو حاج أحمد فهذه قضية بالنسبة له صفرية لا يعبأ بها، وإن وصلت لعنده فسوف يقول بأنها لا تخصه أما اليوم ونسبة لتعقيدات الحياة وكثرة متطلباتها لم تعد هذه النظرة موجودة، فالصراع في السلطة اليوم صار المواطن ليس يرى فقط أنه يمثل عنصرا أساسيا فيه بل صار واحدا من أهم عناصره ومرتكزاته، ويمكن أن تستغل حقوقه لصالح آخرين ليس هذا فقط بل حتى معتقده الذي يرى في السابق أنه خاص به صار اليوم يتاجر به للوصول به للسلطة، ويا ليت الحال وصل عند هذا الحد بل بعد أن يتحقق عبره الصعود للسلطة يلعب بثروة بلاده يمينا ويسارا. ليكتشف بأنه مجرد جسر تم الوصول به لتحقيق أهداف ومصالح أناس آخرين.
نتيجة لكل هذه التغيرات والتعقيدات لا بد أن تتغير نظرة المواطن للحكومة وللسلطة، ففي السابق كان يستمع عبر الإذاعات الغربية التي تبث بلسانه كان يستمع لأنظمة حكم تلك البلدان، ولكيفية إدارة حكمها من باب التسلية ومن باب الترفيه ومن باب البرامج التي تفصل بينه وبين عناء يوم طويل من الجهد والتعب والإرهاق.
لا تهمه الأنظمة الديمقراطية والأنظمة الشمولية والأنظمة الرأسمالية والاشتراكية وإذا سمعها يوما ما في عقر داره من ابنه الذي تعلم في العاصمة،
فسوف يستنكرها عند ابنه استنكاره لملابسه وطريقة تسريح شعره.
هذه الدراما لم تكن ضاربة في القدم بل من عايشها لم يبلغ الستين بعد.
فعندما يتم الحديث اليوم عن الأنظمة الديمقراطية وعن ضرورة ممارستها، فمن ينظر إليها نظرة ثلاثين سنة للوراء، فهذا بمثابة من أوقف الحياة وجعلها تتسمر في العام ١٩٨٠م وغض الطرف عن كل هذه التغييرات التي حدثت على جميع الأصعدة.
حيث تغيرت الحياة بأكملها لم يعد المواطن هو المواطن، ولم تعد سبل العيش وطرق تكسبها هي نفسها، ولم تعد النظرة للحكومات هي ذات النظرة.
الديمقراطية اليوم فرضت نفسها مثلها مثل الهاتف ومثل الأثاث ومثل البنيان ومثل التلفاز.
تذكرون التلفاز؟
تلك الشاشة البلورية التي كنا نتحلق حولها وجميع الجيران في بيت عمنا معتصم مدني الله يرحمه ويغفر له ولجميع موتانا.
ومتى كنا نتحلق؟
بعد صلاة العشاء بعد أن سكنت الديار وهدأت في بيوتها.
أيوجد بساطة أكثر من هذه؟
هل يعقل مقارنة تلك الأيام باليوم؟
وهي تكاد أن تكون المسافة بينها ألف سنة بسبب ما حدث من تغيرات، واليوم البيت الواحد فيه أكثر من ستة أجهزة تلفون تفوق في تقنيتها ملايين المرات من تلك التقنيات التي تحتويها الشاشة البلورية التي كنا نجلس على الأرض أمامها، وليس في غرفة خارجية معدة لها بل من داخل البيت.
إن رفع صوت الوعاظ وإلى فترة قريبة لم تتجاوز العقدين من الزمان، وكان يتفاعل معه الكل بكل حماس وصدق وهو يصدح بأن الغاية من الحياة هي عبادة الله في الأرض، وبالتالي فلا يهم الوسيلة التي تحقق هذه الغاية.
لم نكن ندرك وما زال بعضنا على ذات الحال.
لم نكن ندرك أن منابر الحق لا يحميها الجهلاء والنفعيون والمصلحجيون.
لم نكتشف ومازال البعض منا لم يكتشف لماذا يركض وراءنا هذا المرشح بكل إمكانياته وبكل وقته من أجل الحصول على صوتنا؟ وكنا وما زال البعض منا يعتقد أن ذاك المرشح همه ديننا همه خدمتنا وتعليمنا وعلاجنا.
لم ندرك وما زال البعض منا لم يدرك أن صوتنا غال، ولا يمكن أن نعطيه هكذا دون فحص ودون تأكيد ودون مواثيق وعهود لا تحتويها أدنى ثغرة.
لم نفق ولم نستوعب والبعض منا ما زال في غفوته وما زال في غيبوبته لم نفق إلا على أن هناك نظامين للحكم لا نظام واحد:
نظام يخدم المحكومين.
وآخر يخدم الحاكمين. فإن لم نقف وندافع ونحمي نظامنا سوف نجد أمامنا النظام الذي يخدم الحاكمين يكبلنا من كل جانب يشفط
دماءنا وثرواتنا شفطا دون إذن منا بل رغم أنوفنا.
فكلا النظامين يحتاج لرجال ولمجهود ولوعي بل ولتضحيات.
كلا النظامين يحتاح لحراس ولحماة.
كلا النظامين له أهداف ومصالح وغايات.
لكل ذلك لم تعد الديمقراطية ترفا بعد اليوم.
لم تعد الديمقراطية بعبعبا يرعب بها الطغاة السذج والبسطاء.
لم تعد الديمقراطية حديث الطبقات الراقية والأثرياء الذين كانوا يتسلون بها ويملؤون بها وقت فراغهم الخالي من كل جهد أو عمل.
أصبحت الديمقراطية مطلب من يريد أن يحافظ على أرضه وعرضه ودينه.
أصبحت الديمقراطية مطلب الكادحين ومطلب أصحاب الأرض والثروة، فمن خلالها سوف ينصبون من يحفظ حقوقهم، ومن خلالها سيراقبونه، فإن نجح فهو ممثلهم، وإلا فإلى مزبلة التاريخ.
إن من يريد أن يجعل من الديمقراطية ترفا وكرنفالات ترفيه وتسلية، فليرجع عجلة الزمان إلى الوراء.

 

 

 

 

 

صحيفة الانتباهة

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى