Site icon كوش نيوز

القاهرة تودع “العوامات”.. لا “ثرثرة فوق النيل”

“استوت العوَّامة فوق مياه النيل الرصاصية مألوفة الهيئة كوجه. بين فراغ إلى اليمين احتلَّته عوَّامة دهرًا قبل أن يجرفها التيار ذات يوم، ومصلٍّى إلى اليسار مُقامٍ على لسان عريض من الشاطئ مُطوَّق بسور من الطين الجاف ومفروش بحصيرة بالية”..

 

هذه اللوحة، التي رسمها نجيب محفوظ في روايته “ثرثرة فوق النيل”، لم يعد لها وجود الآن بعد أن ودعت العاصمة المصرية القاهرة مشهد العوامات النيلية، التي ارتبطت في الوعي العام بالعديد من فصول السياسة والفن والأدب على مدى أكثر من 100 عام، في ظل قرار من السلطات بالعمل على “إعادة هيكلة المظهر الحضاري لنهر النيل، لا سيما في القاهرة والجيزة”.

 

و”العوامة” منزل خشبي عائم، تطفو على سطح نهر النيل، كانت ترسو بصفة خاصة في مناطق أرستقراطية سكنها النخبة والأثرياء في العاصمة المصرية قديماً، مثل أحياء الزمالك وجاردن سيتي والدقي.

وفيما يُعتقد أن عددها وصل في السابق إلى أكثر من 500 عوامة، لم يبق منها إلا 33 تقريباً، بدأت السلطات المصرية إزالتها في 28 يونيو 2022

وزير الموارد المائية والري، محمد عبدالعاطي، قال إن “أجهزه الوزارة تواصل التصدى بكل حسم لكافة أشكال التعديات على نهر النيل ومختلف المجارى المائية بهدف تحقيق حسن إدارة وتشغيل وصيانة المنظومة المائية ولضمان توفير الاحتياجات المائية اللازمة لكافة المنتفعين”.
مشهد عام للعوامات السكنية الراسية على نهر النيل في القاهرة قبل بدء إزالتها في 28 يونيو 2022- الشرق
اجتماعات سرية

امتزج تاريخ العوامات بعالم الفن والسياسة، فعرف الكثيرون قصة الممثلة والراقصة حكمت فهمي (1907 – 1974)، التي عملت جاسوسة لصالح ألمانيا النازية ضد الحلفاء أيام الحرب العالمية الثانية، وكانت عوامتها الكائنة في حي الدقي مركزاً للتجسس على كبار الضباط الإنجليز، بحسب ما ورد في مذكراتها.

وتحولت قصة حكمت فهمي إلى فيلم سينمائي عام 1994 من بطولة نادية الجندي وحسين فهمي وفاروق الفيشاوي وأحمد مظهر، ومن إخراج حسام الدين مصطفى.

وكانت هناك عوامة الفنانة منيرة المهدية، التي كانت تحمل رقم 165، وعاشت فيها حتى وفاتها، حيث أجرى التليفزيون المصري لقاء معها في تلك العوامة التي رصدت الكاميرا تفاصيلها قبل اللقاء. وكانت لديها عوامة أخرى برقم 66 تضم 16 غرفة، قالت إن الحكومة المصرية كانت تجتمع فيها لاتخاذ قرارات مهمة.

عوامة نجيب الريحاني

العوامة رقم 75، كانت من ممتلكات أحد أبرز رواد المسرح والسينما الفنان نجيب الريحاني (1889 – 1949)، وشهدت قصة حبه للراقصة بديعة مصابني (1892 – 1974)، التي اشتهرت بالرقص بالشمعدان في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين، لكن عوامة الريحاني غرقت لاحقاً بعد أن رفض الورثة التكفل بتكاليف إصلاحها.

 

ويشرح أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة القاهرة الدكتور محمد عفيفي بعداً آخر لارتباط مساكن المصريين بنهر النيل، ومن ثم بناء العوامات السكنية على ضفافه، فيقول: “علينا أن نضع في الاعتبار أن بعض وسائل الرفاهية كجهاز التكييف أو المروحة لم تكن متاحة في أوائل القرن العشرين، وعلى مدار التاريخ، فضل المصري دائماً السُكنى بالقرب من نهر النيل، هرباً من الأجواء الصيفية الحارة، ومن هنا ظهرت فكرة وجود العوامات السكنية على ضفاف النهر”.

ويوضح عفيفي كذلك أن مناطق أخرى في القاهرة كانت موقعاً ملائماً لمساكن الأمراء والأرستقراطية نظراً لوجود مُسطح مائي، فيقول: “رجوعاً لمحاولة اقتراب المصري من نهر النيل، أقام الكثير من الأمراء والشخصيات الهامة منازلهم حول ما كان يُعرف بـ “بركة الأزبكية”، وكانت بحيرة صغيرة تابعة لنهر النيل، رغبة أيضاً في الوقاية من حرارة الجو، إذ كانت مياه النهر تعمل بمثابة جهاز تكييف طبيعي”.

عوامة نجيب محفوظ

على بُعد خطوات قليلة من ضفة نهر النيل المقابلة لمسجد “خالد بن الوليد” في مدخل منطقة الكيت كات بالقاهرة، كانت ترسو عوامة حسين باشا دياب، التي عاش فيها نجيب محفوظ أكثر من 25 عاماً، وتزوج فيها وأنجب ابنتيه أم كلثوم وفاطمة قبل أن ينتقل إلى شقة في منطقة العجوزة على النيل أيضاً، واحترقت تلك العوامة في مطلع تسعينات القرن العشرين أو قبل ذلك.s
نجيب محفوظ تأثر بالعوامات النيلية طوال حياته ويتوسط يوسف القعيد (يمين) وزكي سالم (يسار) على متن مطعم عائم على نيل القاهرة، في 9 يونيو 1990 – Getty Images

لكن نجيب محفوظ أنقذ العوامة من الغرق عبر تخليدها في صفحات روايته “ثرثرة فوق النيل”، التي صدرت عام 1966، فكانت مسرحاً لأحداثها، التي كادت أن تتسبب في دخول المؤلف إلى السجن.

ويروي محفوظ في كتاب “أنا نجيب محفوظ”، الذي يرصد مجموعة من حواراته الصحفية الواقعة قائلاً إن وزير الحربية في ذلك الوقت المشير عبد الحكيم عامر قال عقب صدور الرواية إن “نجيب تجاوز الحد ويجب تأديبه”، وأصدر قراراً باعتقاله لولا تدخل الرئيس جمال عبد الناصر شخصياً لوقف الإجراء بتدخل من الأديب الراحل “ثروت عكاشة”، الذي كان وزيراً للثقافة آنذاك، حيث قال لعبد الناصر إن من غير اللائق أن يتم البطش بروائي بسبب رواية.

وبعد ذلك بخمس سنوات عرفت الرواية طريقها إلى السينما عام 1971 في فيلم من بطولة أحمد رمزي وعماد حمدي وماجدة الخطيب وميرفت أمين وسهير رمزي وعادل أدهم، ومن إخراج حسين كمال.
“أنا لك على طول”

 

جرى تصوير العديد من الأفلام على ظهر العوامات، مثل فيلم “أيام وليالي” عام 1955 بطولة عبد الحليم حافظ، الذي غنى فيه أغنيته “أنا لك على طول” لحبيبته التي تقطن وأسرتها في عائمة نيلية، ما دفعه للاقتراب منها على متن قارب نيلي صغير.

كما ظهر أحمد زكي بطلاً لفيلم “العوامة 70” عام 1980، مع كل من كمال الشناوي وتيسير فهمي وأحمد بدير، من إخراج خيري بشارة.

وأدى زكي أيضاً مشهداً من فيلم “أيام السادات” عام 2001 للمخرج محمد خان على ظهر عوامة كانت موجودة على النيل في المنطقة المحصورة بين “إمبابة” و”الكيت كات”.

كما صور عادل إمام مشهداً من فيلم “السفارة في العمارة” عام 2005، من إخراج عمرو عرفة على ظهر العوامة رقم 52.

 

تعتبر الدكتورة سهير زكي حواس، أستاذ العمارة والتصميم العمراني بجامعة القاهرة، أن العوامات النيلية ليست لها قيمة معمارية، لكنها أكدت على قيمتها الثقافية والاجتماعية.

وتقول حواس لـ”الشرق” إن “العائمات اتسمت بجو خاص في السكن، يتميز بالبساطة، وأقبل عليه الراغبون في الارتباط بالمياه”، معتبرة إياها نموذجاً خاصاً للسكنى يتعلق بوجود نهر النيل، لافتة إلى وجود نماذج شبيهة في البلدان المطلة على الأنهار.

وتضيف سهير زكي حواس، التي تتولى رئاسة الإدارة المركزية للدراسات والبحوث والسياسات بالجهاز القومي للتنسيق الحضاري وحصلت على جائزة الدولة التقديرية في مجال الفنون عام 2022، أن العوامات لعبت دوراً كبيراً في ثقافة المجتمع بالقاهرة والجيزة على وجه الخصوص.

ورهنت حواس تأييدها التخلص من العوامات بأن يكون ضمن قرارات أوسع بتنقية شواطئ النيل بالكامل، معتبرة أن الإبقاء على الأندية المخالفة على مسطح النيل والمباني الخرسانية الحاجبة للرؤية يُعد مخالفًا هو الآخر لما ينطوي عليه من تخصيص لفراغ عام.

أخطار بيئية

أما الدكتور نادر نورالدين، أستاذ الأراضي والموارد المائية بجامعة القاهرة، فيرى أن الأثر البيئي للعوامات النيلية يتصل بالمخلفات التي قد تلقيها العوامة في النهر، فتؤثر على صلاحية المياه.

وقال  وفق موقع  تلفزيون الشرق” إن العوامات السكنية حينما أخذت في الانتشار ربما كان الهدف منها حل أزمة سكنية، غير أنه مع تنامي الوعي البيئي لدى المؤسسات الرسمية، بدأ الحديث عن خطورتها وآثارها على درجة نقاوة المياه وصلاحيتها؛ لا سيما أنها تمتد على مساحة شاسعة بكورنيش نهر النيل في حيي العجوزة وإمبابة.

الخرطوم( كوش نيوز)

Exit mobile version