جعفر عباس

جعفر عباس يكتب: لماذا كرهت بريطانيا

عرف معظم أبناء وبنات جيلي جوانب من أمور السياسة في زمن ما كان يسمى بالمد اليساري الذي كان قبطانه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وكنا بالتالي نسيء الظن بالغرب، وببريطانيا والولايات المتحدة على وجه خاص، ويعود الفضل لوالدي رحمه الله لتعزيز سوء ظني ببريطانيا، فقد كان يتمتع بثقافة طبية فريدة، فقد كان يعرف أن المعدة بيت الداء، ولكنه كان يلجأ إلى وسيلة عجيبة لتخليص بطون عياله من الأدواء، فصباح كل يوم جمعة وبعد أن يجز شعر رؤوسنا بشفرة (موس) صلاحيتها منتهية، كنا نجلس أمامه في طابور، لغسل بطوننا، فيصب مسحوقاً يسمى الملح الإنجليزي في كوب ماء، ويقلبه بملعقة ثم يتناول كل منا كوبه، ولحسن حظ والدي لم يكن هناك وقتها جمعيات لحقوق الأطفال، فالملح الإنجليزي الذي كان يسقينا إياه صنع من مادة من فصيلة الزقوم التي وعد الله بها أهل النار، ويا ويلك إذا استفرغت وقذفت بها خارج فمك، لأن العبوة البديلة تكون جاهزة، ورأفة بنا كان الوالد يخلط لنا الملح الإنجليزي بالبيبسي أو الكوكاكولا، فكانت النتيجة كأنك تشرب عصير برتقال مخلوطا بالفسيخ، وبما أن البيبسي والكوكا انتاجان أمريكيان فقد وضعت أمريكا على نفس قائمة محور الشر مع انجلترا، وصرت معادياً للإمبريالية ودول الاستكبار العالمي، وأكدت لي متابعة الأحداث السياسية لاحقاً أنني كنت على حق في كراهيتي للغرب، فدول تنتج الملح الإنجليزي كعلاج لا يمكن أن تكون فاعلة خير، ولكن لأن الله رحيم وكريم فقد اكتشفت منظمة الصحة العالمية أن الملح الإنجليزي يلحق أذى جسيماً بالجهاز الهضمي والتنفسي والمسالك البولية والصحة النفسية، فقررت منع إنتاجيه وتسويقه
ولم تنته معاناتنا باختفاء الملح الإنجليزي، فكلما أصيب واحد منا بنوبة إسهال استبشر أهلنا خيراً وقالوا: انها “نظافة” للبطن، فتظل المعدة تنزف مخزونها من السوائل حتى يصاب المرء بالجفاف، وترتفع درجة حرارة جسمه فيقول كبير حكماء الحي: الولد لعب في خرابة مسكونة بالشياطين، ولابد من ضربه بجريد النخل حتى تخرج الشياطين من جسمه، وكنت في نحو العاشرة من العمر عندما عدت من المدرسة ظهراً ووجدت أبي ممداً بلا حراك وحوله رجل كان يزعم أن لديه القدرة على إعداد أي نوع من “العمل” والتمائم التي تمنع الرجال من التزوج على زوجاتهم، وتمنع تاجراً معيناً من تحقيق أرباح حتى يكتسح السوق تاجر آخر دفع له الأتعاب!! وبكيت وتساءلت عما أصاب أبي فأجاب الدجال أنه، أي أبي، داس طفلاً من الجن فأصيب بالشلل، فازددت بكاءً، وطلبت نقله إلى المستشفى فانفجر الرجل غاضباً وقال لي: لا تردد كلام الشيوعيين هذا عن المستشفيات، ولكن ساءت حالة والدي، ونقله بعض العقلاء إلى المستشفى حيث اتضح أنه أصيب بجلطة، ثم تعافى منها نسبياً وعاش بقية عمره وهو يعاني من شلل طفيف في جانب من جسمه!
وما زال كثير من أهلنا في مختلف أصقاع العالم العربي يعانون من ويلات ما يسمى بالفولكلور الطبي الذي يكتسب قدسية غير مستحقة عند العوام، يظهر ورم في ثدي امرأة فتشير عليها عجوز يقال انها مجربة بأن تضع على الورم بعض الطحينة، لمدة شهرين، وعندما يتفاقم الورم وينتشر ويصبح موضعه مصدراً لألم شديد تقول العجوز: هذا مؤشر طيب إلى أن الورم “استوى” وسيفرز الصديد ثم يزول، وعندما يلجأ أهل المريضة إلى الطبيب بعد فشل وصفة العجوز طوال ثمانية أشهر يعرفون أن الورم سرطاني ولا سبيل لاستئصال الورم إلا باستئصال الثدي المصاب بالكامل.
وظللت لسنوات طويلة أعاني من اضطرابات هضمية تسبب لي تسيباً وعدم انضباط في حركة الأمعاء، فكان أهلي يزودونني باللبن الحامض والزبادي على أنهما خير ما يسكت تلك الاضطرابات، وقبل سنوات قليلة أكد لي طبيب مختص في أمراض الجهاز الهضمي أنني أعاني من حساسية من الحليب ومشتقاته (بالتحديد سُكّر الحليب – اللاكتوز) وأن قولوني لن يهدأ ما لم أتجنب تلك الأشياء، ولولا ذلك الطبيب لكان قولوني نفسه قد غادر جوفي في نوبات النزلات المعوية المتلاحقة التي كان الروب/ الزبادي وبنات عمه يسببونها لي!! وهنا أذكركم بعنوان مقال قديم لي في هذه الصحيفة: لا تسأل مجرباً بل أسأل طبيباً!

 

 

 

 

 

صحيفة الشرق

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى