تحقيقات وتقارير

الصراع القبلي في دارفور .. جذور الأزمة .. وفشل الحلول

 

مشاهد القتل والحرق في كرينك بولاية غرب دارفور ومن بعدها في الجنينة وفي معسكر كلمة بجنوب دارفور، كانت أشبه بالحرب الرواندية التي اتصفت بالأبشع في التاريخ البشري بعد حرب البوسنة والهرسك في الإبادة، ويبدو أن لغة القبلية عادت تسيطر على المشهد الدارفوري بعد سنوات من الهدوء وبدء تعافي المجتمع الدارفوري من الخطاب القبلي والعنصري نوعاً ما، وشهدت مناطق عدة في إقليم دارفور في الأسبوعين الماضيين مواجهات دامية راح ضحيتها مئات القتلى ومئات الجرحى، ويعتقد مختصون بشؤون الإقليم أن مشكلة دارفور ليست سياسية من الدرجة الأولى، إنما مشكلة اجتماعية يستغلها السياسيون ويستند هؤلاء على استمرار هذه الصراعات بعد اتفاقية السلام وحصول أبناء دارفور على الحصة الأكبر من المقاعد الدستورية في كل مؤسسات الدولة، وتصاعدت هذه النزاعات بشكل أكثر وحشية من ذي قبل ما يؤكد أن الصراع ليس صراعاً سياسياً، ويرى هذا الفريق أن الاتفاقية والاتفاقيات التي سبقتها لم تلامس جذور الأزمة.

صراع وحشي

وقتل ما لا يقل عن 220 شخصاً، في أعمال عنف في إقليم دارفور واندلع القتال الدامي، في منطقة كرينك بولاية غرب دارفور بين قبائل عربية ومجموعات ذات جذور إفريقية مخلّفاً 8 قتلى، و16 مصاباً، وتعد منطقة كرينك من المناطق التي تتمركز فيها القبائل غير العربية (المساليت) تعرضت لهجوم عنيف من عناصر تمتطي سيارات دفع رباعي ودراجات نارية وخيولاً وجمالاً، وبدأ الهجوم حسب مسؤولين محليين بإطلاق الأعيرة النارية بجميع أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة في المدينة، وتدمير مركز الشرطة ومبان محلية، إلى جانب نهب كل أحياء كرينك. وحسب المهتمين بملف الإقليم تطورت معظم النزاعات إلى حروب قبلية كانت بسبب الأرض أو المرعى أو مصادر المياه المختلفة أو الغابات وربما الحدود الإدارية أهلية كانت أم محلية، كما أن توقيع اتفاقات صلح بين أطراف النزاع لا يعني نهايته، ولا يجوز الحديث عن سلام مستدام ما لم تتم معالجة النزاعات وفق الأعراف والتقاليد المعترف بها، كآليات نهائية لفض النزاعات عبر استخدام الهياكل الاستشارية التقليدية الموجودة أصلاً بمناطق النزاع، بخاصة وجود زعماء وشيوخ تقليديين ووسطاء قرى ومؤسسات دينية وغيرها من المؤسسات المشابهة.

فشل الحلول

وأرجع هؤلاء فشل وانهيار مؤتمرات الصلح إلى أسباب رئيسة أهمها، ضعف الإدارة الأهلية وتضاؤل نفوذها ومكانتها بين أفراد القبيلة، وفقدانها قوة قبضتها في فرض تنفيذ القوانين والأعراف القبلية المرعية منذ القدم، فضلاً عن عدم الاستعانة بممثلين من أطراف الصراع من دون الذين يحملون السلاح ويقاتلون في ميدان الحرب من الشباب، إذ غالباً ما تتم الاستعانة بأشخاص أو سياسيين ابتعدوا زمناً من القبيلة، فضلاً عن تدخل بعض المستفيدين من أجواء الحرب في عمليات النهب والسلب.

انتشار السلاح

ويعزو الرئيس السابق للسلطة الانتقالية في دارفور، التجاني سيسي، فشل مؤتمرات الصلح إلى جملة من الأسباب لخصها في “غياب الإرادة الحكومية لبسط الأمن في ولايات دارفور وغياب هيبة الدولة، إلى جانب انتشار السلاح بكثافة في أيدي المواطنين واستخدامه في الصراعات القبلية، وفي التفلتات التي أصبحت أحد مظاهر الأزمة الأمنية في دارفور، وضعف الإدارة الأهلية وسلب سلطاتها وعدم تمكينها من أداء مهماتها لمعالجة الاختلالات الأمنية والحفاظ على السلم الاجتماعي، إضافة إلى ضعف الحكومات الولائية والتغول المركزي على سلطات وصلاحيات الولايات التي أصبحت مقعدة، وأصبح الوالي لا يملك السلطات الكافية لمواجهة التحديات الأمنية”. وانتقد السيسي سياسات الحكومة المركزية التي عمدت إلى إعادة تقسيم الولايات والمحليات والتي أدت بدورها إلى تعديلات في الحدود الإدارية لهذه الكيانات، تبعتها تعديلات في حدود الحواكير مما تسبب بخلق بؤر للنزاعات القبلية سرعان ما تحولت إلى صراعات دامية. ويشير رئيس السلطة الانتقالية السابق إلى أن مسألة النزوح الداخلي من شمال إلى مناطق جنوب وغرب دارفور نتيجة الجفاف والتصحر، تسببت في مزيد من التنافس على الموارد بين المجموعات النازحة والسكان الأصليين، مما شكل بؤرة للنزاعات بخاصة في جنوب دارفور، فضلاً عن هجرات المجموعات القبلية من غرب أفريقيا إلى الإقليم واتخاذها العنف وسيلة لانتزاع حقوق الحيازة على الأرض.

حلول مؤقتة

من جانبه، يرى والي غرب دارفور الأسبق أبو القاسم إمام أن مؤتمرات الصلح كآلية ظلت تركز على العوارض العامة للنزاعات من دون الغوص في جذورها وأسبابها الحقيقية، وبالتالي فهي كمن يستخدم العلاجات المسكنة في وقف القتال، لكنها لا تستبطن القضايا والمشكلات لإيجاد الحلول الحقيقية واقتلاع أسبابها الكامنة تاريخياً، وهي أسباب ترتبط في غالبيتها بقضايا الأرض والموارد ومسارات حركة السكان والمزارعين والرعاة.

ضعف الدولة

ويرجع “الشرتاي” آدم أبكر، مدير المكتب التنفيذي للإدارة الأهلية في السودان، الأسباب الرئيسية في تجدد الصراعات القبلية في دارفور والسودان بصفة عامة، على الرغم من مؤتمرات الصلح التي تتم، إلى ضعف السلطات المركزية والولائية والمحلية، إلى جانب غياب وعدم تطبيق القانون، ما تسبب في عجز الدولة عن فرض هيبتها، مشيراً إلى أن ضعف الأجهزة الرسمية أدى بدوره إلى اضمحلال دور الإدارة الأهلية، على الرغم من قدرتها على حل النزاعات القبلية والأهلية.

بدوره يعتبر الباحث في شؤون النزاعات القبلية فضل المرجي سيد حسين أن مؤتمرات الصلح بطبيعة تكوينها ليست آلية قادرة على حسم القضايا الخلافية، وفي مقدمتها ملكية الأرض وعلاقات الإنتاج، وقال في حديثه لـ (الحراك) إنه بدلاً من حل هذه المعضلة تلجأ المؤتمرات إلى حلول توفيقية تؤجل فقط حدوث التقاتل القبلي لكنها لا تزيل مسبباته، مما يجعله قابلاً للانفجار في أي وقت، فضلاً عن أن مقررات وتوصيات لجان “الأجاويد” لا تجد طريقها للتنفيذ، مما يعني وجود مسببات الخلاف التي تمهد للنزاع المقبل.

الاستغلال السياسي

ويشير المرجي إلى أن الاستغلال السياسي لمؤتمرات “الجودية” (الصلح) لتحقيق هدف التأييد القبلي للسلطات الحاكمة، أدى إلى تحويل دورها التقليدي إلى خدمة مصلحة السلطات بدلاً من خدمة المتصارعين، وبالتالي فقدان “الجودية” مكانتها الاجتماعية وسلطانها النفسي الذي يلزم الأفراد للانصياع لمقرراتها، فضلاً عن أن السلطات الحاكمة ظلت تعتمد على زعماء العشائر والقبائل باعتبارهم محل ثقة، ويوضح أن النزاع الموجود الآن في دارفور ليس نزاعا قبلياً بالمعنى المتعارف عليه سابقاً، إذ أن هناك مسببات من خارج المنطقة ومن داخلها أدت إلى تشعبه وتشابكه مع مؤثرات إقليمية ودولية فاقمت المشكلة، فضلاً عن الصراع الداخلي بين المركز في الخرطوم وبين الأطراف في دارفور، الذي غذته الصراعات بين الإسلاميين في المرحلة السابقة مما أدى إلى تفاقم الأزمة على النحو الذي يعيشه الإقليم الآن، والتي كان من الممكن حلها من طريق “الجودية” لولا تدخل السياسة والسياسيين.

حروب منظمة

ويقول المحلل السياسي مصعب فضل الله إن النزاعات القبلية في دارفور قديمة قدم التاريخ، ولكنها استغلت لأجندة سياسية ما أدى إلى اتساع دائرة هذه النزاعات التي كانت محصورة في جغرافية محدودة، وباتت أشبه بالحرب المنظمة بعد دخول تكتيكات عسكرية وأسلحة متطورة. وعلق مصعب على جدوى اتفاقية السلام التي وقعت في جوبا في إنهاء الحرب في دارفور قائلاً: لم تكن تلك الاتفاقية لإنهاء الحرب بل لإشعال مزيد من الحروب وهذا ما ظهر جلياً من تصاعد حدة الصراعات أكثر مما كان قبل الاتفاقية. وقال إن الحلول التي لجأت إليها الدولة سابقاً لم تكن حاسمة بل مؤتمرات صلح تصرف عليها أموال طائلة ويعود موقعوها للقتل بعد ساعات من نهاية الاحتفال، وقطع بضرورة مخاطبة الجذور لمشكلة دارفور بدلاً من الحلول المؤقتة.

 

نبيل صالح : الحراك السياسي

 

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى