Site icon كوش نيوز

جعفر عباس يكتب: كلام قروبمان وليس كلامي

جيروم قروبمان الأستاذ بكلية الطب في جامعة هارفارد الأمريكية، أمضى نحو عشرين سنة يتقصى الأسباب التي تجعل الأطباء يخطئون في تشخيص الأمراض، واستجوب على مدى تلك الفترة آلاف الأطباء. سأل كل واحد منهم: كيف تتوصل إلى قرارك بشأن حالة المريض؟ وفوجئ قروبمان بأن معظم الأطباء ردوا عليه سلبا، أي أنهم قالوا إنهم لا يعرفون على وجه التحديد كيف يتوصلون إلى استنتاجات بشأن الحالات التي تعرض عليهم. رغم أنها تكون استنتاجات صائبة في معظم الأحيان، واكتشف قروبمان أيضا أن كثيرا من الأطباء يحسم أمر المريض الجالس أمامه بعد أن يفتح فمه بنحو عشرين ثانية (ولهذا تلاحظ أن هذا الصنف من الأطباء يبدأ في كتابة الوصفة/الروشتة قبل أن تعطيه نصف التفاصيل عن حالتك). بل أحيانا – وعلى ذمة قروبمان – قد لا يستمع الطبيب إليك لأنه يكون منصرفا إلى قراءة ما كتبه عنك في ملفك هو أو طبيب آخر قابلته من قبل، أو نتائج التحاليل المخبرية أو الإشعاعية (وهناك تجربة شخصية كتبت عنها كثيرا. فقد كان هناك ورم “دُمّل” في أسفل بطني، وعندما صار صديديا ومؤلما لجأت في ساعة متأخرة من الليل إلى قسم الطوارئ الذي يقضي النظام فيه أن تبلغ ممرضة قرب مدخل العيادة عن حالتك، لتقرر ما إذا كانت “طارئة” فتحولك إلى الطبيب أو غير طارئة فتأمرك بأن تعطيها عرض أكتافك. كانت آسيوية وأبلغتها بإنجليزية سليمة بأمر الدمل فحولتني إلى الطبيب مزودا بملاحظاتها المكتوبة، وما إن دخلت على الطبيب حتى قرأ ملاحظات الممرضة وانفجر ضاحكا. سألته غاضبا: شنو المضحك؟ ولكنه واصل الضحك.. فخرجت من الغرفة غاضبا من “استخفاف” الطبيب بي. هل يحسب أنني متمارض وجئته بدمل صغير كي أحظى بقرار طبي يعفيني من العمل يومين أو ثلاثة؟ هل شكلي مضحك؟ ربما لا يعرف الطبيب المسكين أنني وفي شبابي “دوّخت” سعاد حسني وميرفت أمين وأن نبيلة عبيد وافقت على الزواج بي بس اختلفنا على المهر
المهم خرجت من غرفة الطبيب غاضبا، ولكنه لحق بي وأحاط كتفي بذراعه وهو يقول: مع مع مع أهئ هئ هئ معليش.. الحق.. هاها ها ها الحقيقة الممرضة.. دفعته بعيدا عني وتوجهت إلى موقف السيارات وقد قررت كتابة شكوى بحقه في اليوم التالي لإدارة المستشفى، ولكنني فوجئت به يلحق بي مجددا وقد تحولت ضحكاته إلى سعال ديكي. وبصعوبة بالغة أبلغني أن الممرضة ولسبب غير مفهوم لديه أعطته أوراقا تخصني تفيد بأن حالتي تتعلق بحمل خارج الرحم. ذهلت لدقائق ثم انفجرت ضاحكا بدوري. وبعد نحو ربع ساعة من الضحك الهستيري توجهنا سويا إلى الممرضة واتهمتها بأنها طعنت في شرفي، فبان عليها الهلع، وأيد الطبيب ما قلته ولكن ضحكة صدرت منه أعطت الممرضة الانطباع بأن المسألة هذر وهزار.. هنا عرض عليها الطبيب ما هو مكتوب على الورق والذي بموجبه سمحت لي بمقابلته وسألها: هل رأيت في هذا السوداني الواقف أمامك ما يوحي بأنه مزود برحم؟ كادت المسكينة أن تصاب بانسداد في قناة فالوب من فرط الحرج، ثم اتضح أنني فعلا بريء من شبهة الحمل داخل أو خارج الحمل لأن الاسم المكتوب على الورقة التي ناولتني إياها الممرضة وقدمتها أنا للطبيب كان اسم امرأة، بل كانت الورقة تحمل تاريخا “قديما”، بينما الورقة التي عليها اسمي كانت تحمل وصف العلة الحقيقية “ورم صديدي” خارج البطن (مش الرحم يا خبيث)
هذا ما عناه الدكتور قروبمان بأن معظم الأخطاء الطبية تنجم عن عدم اهتمام بعض العاملين في الحقل الطبي بما يقوله المرضى. وكان من أقسى الملاحظات التي توصل إليها هذا الطبيب الباحث أن النساء هن الأكثر تعرضا للتشخيص الطبي الخاطئ، لأن الاعتقاد السائد في الدوائر الطبية وغير الطبية أنهن كثيرات الشكوى، ومن ثم يتم تأويل علل بعضهن على أنها نفسية – جسدية (سايكوسوماتيك)، بينما قد تكون عللا حقيقية يؤدي إهمالها الى عواقب وخيمة.

 

 

 

 

 

 

صحيفة الشرق

Exit mobile version