جعفر عباس

جعفر عباس يكتب: شتان ما بيني وبين السويسري

سويسرا من أصغر بلدان العالم، ولكن اقتصادها أقوى من اقتصاد أغنى تسع دول عربية مجتمعة، وهي تنعم باستقرار سياسي نادر المثال، ورغم ان سكانها خليط من عدة أجناس أوروبية، ويتكلمون ثلاث لغات مختلفة، إلا أنهم يعيشون في تآلف، ولا يوجد فيها مواطن درجة أولى وآخرون من درجات سفلى، وما يميز سويسرا عن سائر بلدان العالم انه لا توجد بها قوات مسلحة… يعني جيش مفيش.. ليست عندها مدرعات أو قوات جوية أو بحرية أو مشاة، أو وجع رأس، وبالتالي لم تعرف أو تشهد محاولات انقلابية، ولم تتعرض للغزو حتى من قبل ألمانيا الهتلرية، ورغم هذا – وربما بسبب هذا- فإن الحرس البابوي في الفاتيكان كله من السويسريين، لأن البابا حريص على إحاطة نفسه بعساكر مسالمين، لأن السويسريين لا يخوضون الحروب ولا علاقة لهم حتى بحلف الأطلنطي الذي معظم عضويته من الدول المجاورة
وأستعيد هنا واقعة مثول شرطي سويسري أمام القضاء متهما بجريمة نكراء، اهتمت بها الصحف طوال عدة أسابيع، فقد تلقت القيادات الأمنية بلاغا بأنه يقوم بنشاط مخالف للقانون، وضبطته متلبسا بالجرم المشهود في أحد المقاهي: كان الشرطي المجرم يشرب القهوة، عندما اعتقله مجموعة من زملائه وحملوه إلى المخفر ومعه دليل إدانته أي كوب القهوة الذي كان يشربه، ولم يكن من سبيل أمام الشرطي المجرم سوى الاعتراف أمام المحققين والقاضي: نعم “زوغت” من الشغل لنصف ساعة لأشرب كوب قهوة، تخيلوا هذا الرجل عديم الضمير يتغيب عن العمل ثلاثين دقيقة كاملة لشرب القهوة، وتناقلت فضيحة الشرطي هذا جميع صحف أوروبا في “اندهاش”، وتعجب بعضها من الحكم على الشرطي بالسجن شهرا مع الطرد من الخدمة!! (في سويسرا قد تدخل السجن إذا ثبت انك لم تقم باصطحاب كلبك في جولة من ست ساعات أسبوعيا).
وفور قراءة تفاصيل واقعة هذا الشرطي عديم الضمير، عدت بذاكرتي بضع سنوات إلى الوراء، عندما حددت موعدا لزواجي، وكنت وقتها اعمل في التلفزيون السوداني وأعد وأُقدِّم برنامجا أسبوعيا لتعليم اللغة الانجليزية، وقدرت انني بحاجة الى إجازة لا تقل عن شهر ونصف الشهر، وهكذا قمت بتسجيل ست حلقات من البرنامج، وخرجت دون الاستئذان من رئيسي المباشر ولم أعد، يعني اختفيت من التلفزيون طوال 45 يوما دون أخذ إذن بالإجازة، وتزوجت، ثم “مليت” الحياة الزوجية بعد شهر، وعدت إلى التلفزيون وكانت لدي حلقتان جاهزتان لأسبوعين قادمين، وقمت بتسجيل حلقتين أخريين، وخرجت بنية التغيب لشهر كامل، وخلال ذلك الشهر جلست لامتحان ترجمة في مكتب التوظيف التابع لشركة أرامكو السعودية، واجتزت الامتحان، وابلغوني بانه يتعين علي ان اكون في الظهران خلال أسبوعين، فعدت الى التلفزيون وسجلت نحو خمس حلقات جديدة من برنامجي وخرجت ولم اعد حتى الآن، وكان ذلك قبل نحو 35 سنة، وحز في نفسي أنه ما من أحد افتقدني، أو أحس بغيابي، حيث انني لم اتلق لا “لفت نظر”، ولا إنذارا بالفصل من الخدمة، وبعد ستة اشهر قضيتها في خدمة ارامكو عدت لأكتشف انني نلت ترقية، وأن حكومة السودان تحول راتبي شهريا الى البنك. وكنت في الأصل منتدبا للتلفزيون من وزارة التربية لتقديم البرامج التعليمية، ودخت وانا اطوف مكاتب الوزارة كي يوقفوا مرتبي، وكتبت عدة استقالات بأثر رجعي، ولكن بلا طائل.
وانتهت إجازتي وعدت إلى شركة ارامكو، وبعدها بنحو ثلاثة أشهر، اي بعد تركي العمل في التلفزيون بتسعة أشهر تولى جعفر نميري الذي كان رئيسا للجمهورية مسؤولية وزارة التربية بالوكالة، ووضع فاعل خير أمامه قائمة بأسماء الموظفين غير الموالين للثورة (وفي العالم العربي يسمون الانقلاب العسكري ثورة) وكان اسمي من بينهم، فتم فصلي من الخدمة (بتهمة معارضة الحكم وليس لأنني متغيب عن العمل) وتسلمت وثيقة تحمل توقيع نميري بذلك وتنص على حرماني من مكافأة نهاية الخدمة ولم تكن تعادل راتب شهر واحد،.. ومعنى هذا ان لحكومة السودان في ذمتي راتب ثمانية أشهر، وقيمتها بالسعر الحالي لصرف الجنيه السوداني أقل من واحد على مائة من الدولار!! والحمد لله انني لم أكن موظفا في سويسرا، وإلا لربما دخلت السجن

 

 

 

صحيفة الشرق

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى