زهير السراج يكتب: دقيقة واحدة !

* في مدينة (مانشستر) الإنجليزية كنت أقف منتظراً دوري أمام شباك التذاكر في محطة الحافلات لأشتري تذكرة سفر إلى العاصمة (لندن) لأداء بعض الأعمال، وكانت أمامي سيدة مسنة طال وقوفها أمام الشباك وهي تتحدث مع الموظفة التي قالت لها: الناس ينتظرون، أرجوكِ تنحّي جانباً !
* ابتعدت المرأة قليلاً لتفسح لي المجال، وقبل أن أشتري تذكرتي سألتُ الموظفة عن المشكلة، فقالت لي بأن المرأة معها قيمة التذكرة ولكن ليس معها قيمة بطاقة دخول المحطة وهي (جنيه) واحد، وتريد أن تنتظر الحافلة خارج المحطة وهذا ممنوع، قلتُ لها: هذا (جنيه) وأعطها البطاقة، وتراجعتُ قليلاً وأعطيتُ السيدة مجالاً لتعود إلى دورها بعد أن نادتها الموظفة مجدداً.
* اشترت السيدة بطاقتها ووقفت جانباً وكأنها تنتظرني، وتوقعت انها تريد أن تشكرني إلا أنها لم تفعل، وطلبت منى أن أحمل حقيبتها.
* كان الأمر غريباً، ولكنني وجدت نفسى وبدون تفكير أحمل حقيبتها، واتجهنا سوياً إلى الحافلة، وعندما أردت الجلوس على مقعدي جوار النافذة سبقتني وجلست عليه بدون أن تنطق بحرف، فلم احتج وجلستُ على مقعدها، فأخذت تحدق في وجهي حتى بدأت أتضايق من نظراتها التي لا أراها ولكن أشعر بها، وعندما حانت مني التفاتة نحوها تبسمتْ قائلة: كنت أختبر مدى صبرك وتحملك على قلة ذوقي، وأعرف بماذا تفكر، وسأخبرك به لاحقاً، ولكنني أفكر الآن في الطريقة التي سأرد لك بها الدّين، فأجبت بأن الامر لا يستحق، فقالت لدي شيء سأبيعه وأرد لك (الجنيه)، فهل تشتريه أم أعرضه على غيرك، فسألتها كيف أشتري شيئاً بدون أن أعرف ما هو، فقالت إنها حكمة، أعطني (جنيها) وسأعطيها لك، فقلت وإن لم تعجبني هل ستردين لي الجنيه، قالت لا، فلا يمكنني استرجاع الكلام بعد ان تسمعه، كما إنني أريد (الجنيه) لأرد ديني!
* أعطيتها جنيها، فقالت وعيناها تلمعان، أنا معلمة متقاعدة، جئت الى (مانشستر) لزيارة صديقة وأنفقتُ كل ما معي وتركتُ ما يكفي لأعود إلى بيتي، إلا أن سائق التاكسي أحرجني وأخذ مني جنيها واحدًا زيادة، فقلت في نفسي سأنتظر الحافلة خارج المحطة، ولم أكن أدري أن ذلك ممنوع. وأضافت، أحببتُ أن أشكرك بعدما رأيت شهامتك، وكنت ستقول لي بأن المبلغ بسيط، وأقول لك انك شهم، قاطعتها مبتسماً: أتوقع بأنك ستحكي لي قصة حياتك، لكن أين البضاعة التي اشتريتُها منكِ، أين الحكمة، قالت لي فقط دقيقة، قلت لها حسنا سأنتظر دقيقة!
* قالت لي : لا تنتظر، الحكمة هي “فقط دقيقة”، لا تنس هذه الكلمة أبداً في كل أمر تريد أن تتخذ فيه قراراً، وعندما تصل إلى لحظة اتخاذ القرار أعطِ نفسك دقيقة واحدة إضافية قد تتغير فيها أمور كثيرة ولكن بشرط ان تتجرد عن نوازع نفسك، وتستعيد في ذاكرتك كل القيم الإنسانية، فإن كنت (مثلاً) قد قررت بأن شخصاً قد ظلمك، فخلال هذه الدقيقة ربما تكتشف بأن قد ظلمته أيضاً، وعندها قد تغير قرارك تجاهه، وإن كنت نويت أن تعاقب شخصاً، فإنك خلال هذه الدقيقة ربما تجد له عذراً فتخفف عنه العقوبة أو تمتنع عن معاقبته وتسامحه نهائياً، دقيقة واحدة بإمكانها أن تجعلك تعدل عن اتخاذ خطوة مصيرية في حياتك لطالما اعتقدت أنها هي الخطوة السليمة، في حين أنها قد تكون كارثية، دقيقة واحدة ربما تجعلك أكثر تمسكاً بإنسانيتك وأكثر بعداً عن أهوائك وغرورك، دقيقة واحدة قد تغير مجرى حياتك وحياة غيرك، وإن كنت من المسؤولين فإنها قد تغير مجرى حياة مجموعة كاملة من البشر !
* يقول الراوي المجهول: قالت المرأة وأنا استمع في ذهول، هل تعلم أن كل ما شرحته لك عن الدقيقة الواحدة لم يستغرق أكثر من دقيقة واحدة، قلت لها: صحيح، وأنا قبلتُ برحابة صدر هذه الصفقة وحلال عليكِ (الجنيه)، بسطتْ يدها وقالت : تفضل، أنا الآن أردُّ لك الدين وأعيد لك ما دفعته عند شباك التذاكر، وأشكرك كل الشكر.
* “دقيقة واحدة فقط” .. أيها السادة !

 

 

 

صحيفة الجريدة

Exit mobile version