تحقيقات وتقارير

مات العراب؛ بينما لا تزال سياسات الصندوق تزيد الفقراء فقراً

في الرابع من رمضان تعلن أسرة القيادي في النظام السابق رحيل الاقتصادي المثير للجدل عبد الرحيم حمدي بمنزله بحي شمبات البحراوي، وأنه ستتم مواراة جسده الثرى بمقابر حلة حمد؛ لتنطوي صفحة الرجل في الحياة دون أن ينطوي في المقابل الجدل الذي أثاره الرجل في 82 عاماً عاشها في البلاد، ولا يزال مستمراً كيف لا والرجل يسبقه توصيف كونه عراب سياسة التحرير الاقتصادي في السودان في تسعينات القرن الماضي، كما أنه شغل منصب وزير المالية لدورتين في بلاد لم يرهقها شيء أكثر من اقتصادها الغني بالموارد والفقير في سياسات إدارته وفي سيرة حمدي ايضاً ثمة إشارة لكونه صاحب فكرة المثلث الشهير بدعوته للتنمية في أقاليم الشمالية الخرطوم وسنار، وما ترتت على الدعوة من ردود فعل سياسية.

1
تقول السيرة الذاتية بأن عبدالرحيم محمود علي حمد العبادي؛ إنه نشأ في أسرة متدينة ومستنيرة أطلق صرخته الأولى في مدينة مروي في العام 1939 ، التحق بـ (الكتاب) بشندي في العام 1946 وتنقل بعدها لمواصلة دراسته بالكتاب في ثلاث مناطق هي أم درمان والخرطوم وبربر بحكم عمل والده بالطب وتنقله من منطقة الى أخرى. الى أن استقر بهم المقام بأم درمان ودرس الوسطى بمدرسة أمدرمان والثانوي بوادي سيدنا؛ ومنها إلى جامعة الخرطوم التي تخرج فيها من كلية الاقتصاد في العام ..1962 حيث تخرج منها وبعدها ابتدر حياته العملية التي بدأها بالعمل في الصحافة في ستينات القرن الماضي؛ كمدير تحرير لصحيفة الراية؛ لسان حال الميثاق الإسلامي وهو العمل الذي جعله محاطاً بالعمل السياسي، حيث تم اعتقاله قبل أن يطلق سراحه لاحقاً في فترة المصالحة مع نظام نميري.

2
في السبعينات انشغل حمدي بالتأسيس لبنك فيصل الإسلامي وشغل منصب نائب المدير العام قبل أن يحزم حقائبه مغادراً إلى المملكة العربية السعودية بدعوة من الشيخ صالح الكامل لتأسيس بنك البركة، وتقلد فيه منصب نائب المدير العام قبل أن يعود للخرطوم عقب نجاح الجبهة الإسلامية في الانقلاب على السلطة وقيام حكومة الإنقاذ الوطني، حيث عهد للرجل بمنصب وزير المالية الذي استمر فيه حتى العام 1993 وغادره من أجل تأسيس شركة خاصة « « ، وهي شركة استشارية متخصصة في المجال المالي وعمل الدراسات المالية للبنوك، ثم قام بتأسيس شركة الرواد للخدمات المالية، وفي العام 1994 تقلد منصب رئيس مجلس إدارة سوق الخرطوم للأوراق المالية، وشغل منصب رئيس مجلس إدارة بنك الاستثمار المالي، و ذلك حتى عام 2002م الذي أصبح فيه وزيراً للمالية للمرة الثانية ، وهو من مؤسسي شركة الأمان للصرافة ورئيس مجلس إدارتها، بجانب رئاسته لمجالس إدارات شركة موتف فورس للطيران و ميداير لاينز.

3
التحق حمدي بتنظيم الاتجاه الإسلامي في فترة دراسته المرحلة الثانوية في مدرسة وادي سيدنا بامدرمان في خمسينات القرن الماضي وهي الخطوة التي أخرجت الرجل من حالة الانطوائية إلى كونه كادر سياسي (مزعج) ويملك قدرة اتخاذ القرار دون النظر إلى ردود الأفعال المترتبة عليه، وهو أمر يبدو ماثلاً في اتخاذه قرار تطبيق سياسات التحرير الاقتصادي في العام 1992 وفي قمة علاقات المواجهة بين الخرطوم والغرب الذي يتبناها، مقدماً في الوقت نفسه، الدفوعات الخاصة بسياساته ومتجاوزاً للانتقادات التي واجهته من كثيرين، وهو الرجل الذي ينعته البعض بأنه (متغطرس) وحاسم في تنفيذ ما يؤمن به بغض النظر عن النتائج المترتبة عليه، وفي مطلع الألفية الثانية أعادت الإنقاذ حمدي مرة أخرى لمنصبه كوزير للمالية من أجل معالجة الاختلالات في البنية الاقتصادية في البلاد، وبعد مغادرته المنصب كان حمدي يجهر برأيه في ما يتعلق بالمسارات الاقتصادية، وتحتفظ له وسائل الإعلام بتصريحاته التي وصف فيها؛ حيث قال إن الميزانية انهارت بعد شهر واحد، ووصف الطريقة التي تم بها زيادة أسعار المحروقات بالمجغمسة.

4
غادر حمدي الحياة أمس؛ وبعد عامين من كتابة الشعب تذكرة الرحيل لنظام ظل هو عرابه الاقتصادي، بينما بقي السؤال حول سياسات الخصخصة واقتصاد السوق الحر ومآلاتها، المفارقة أنه وفي العام 2018 طالب عراب سياسات السوق الحر الحكومة يومها بمراجعتها وانتقد حمدي سياسة التحرير موضحاً أنها يجب أن تشمل تحرير سعر الصرف، وقال بلغت نسبة الادخار في المصارف (2%) بينما بلغت نسبة النمو (40%) مشيراً إلى أن الدولة تعاني من ضعف الإدارة، وأضاف بأن سوء تطبيق سياسة التحرير أدى لزيادة الأسعار وارتفاع نسبة التضخم مما أدى للضغط على الأغلبية الساحقة والنتيجة الفشل في معالجة مشاكل الأقلية والأغلبية، وهي ذات ما يحدث الآن، بينما في حكومة الثورة فإن وزير ماليتها الأسبق كان يمضي في ذات طريق حمدي قبل أن يأتي الوزير جبريل ويكمل الناقص بإعلان سياسات تحرير سعر الصرف او توحيده، والاختلاف الوحيد هو أنه حين أعلن الوزير حمدي سياساته كانت العلاقة بين الخرطوم وواشنطن في قمة مواجهتها، بينما تبدو الآن في أفضل أحوالها وفي الحالتين لم يجد الشعب سوى المزيد من المسغبة وضنك العيش.

5
بالتزامن مع رحيل عراب سياسة التحرير التي يتبناها صندوق النقد الدولي، والذي قيل إنه فوجئ بالسياسات التي نفذها حمدي في التسعينات فإن الحقيقة الماثلة الآن هي تلك التي يمكن اختصارها في عبارة، ان السودانيين تحت مقصلة الصندوق، وأن الاقتصاد يمضي بخطى متسارعة نحو الانهيار، وأن معدلات التضخم تجاوزت الأرقام القياسية، وأن التعويل على الاستقرار بناء على الوعود بالدعم؛ هي عملية شراء للسمك داخل البحر بحسب ما يقول الخبير الاقتصادي وعضو اللجنة الاقتصادية لقوى إعلان الحرية والتغيير وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني كمال كرار، والذي يستخدم ذات لغة نقده لسياسات النظام البائد في نقده لسياسات الاقتصاد لدى حكومة الثورة، وقال : المعروف أن روشتة صندوق النقد تزيد الفقراء فقرأ والأغنياء غنى، مقابل وعود بالتمويل والدعم لا تتحقق على الإطلاق، محذرًا من موجة عالية مرتقبة من الغلاء في السلع وارتفاع حاد في معدلات التضخم حال شروع الحكومة في تنفيذها في الوقت الراهن، وهو ما يحدث الآن في الشارع ويدفع بالحزب الشيوعي لإعلان مواجهته الحكومة والعمل على إسقاطها بسبب الاقتصاد.

6
رحل حمدي بينما بقي السؤال عن المثلث حاضراً كيف تبدو الأوضاع في الشمالية ونهر النيل؟ وكيف الحال في الخرطوم؟ وماذا عن سنار ؟ ولاي مدى تم تنفيذ مشاريع التنمية المطروحة وقتها، الأمر لا يحتاج لمزيد من الجهد عليك فقط أن تقرأ تصريح منسوب لعضو مجلس السيادة الفريق ياسر العطا من عطبرة وهو يقدم اعترافه بعجز الحكومة عن حل الضائقة الاقتصادية، ويكمل بأن مجلس شورى الجعليين غير معترف به من قبلهم، باعتباره أحد تمظهرات التراجع عن قيمة الوطن لصالح قيمة القبيلة، في الخرطوم تكفيك مشاهد الصفوف الممتدة أمام محطات الوقود او أمام المخابز لتمنحك الإجابة كاملة دون نقصان، وفي قرى الجزيرة وسنار فإن تمدد رواكيب بيع الوقود في السوق الأسود في مناطق الزراعة تخبر تماماً عن حال سياسات الاقتصاد في زمن حمدي أو في أزمان السلطة التي صعدت بعد إسقاط الثورة لحكومة حمدي. وخلاصة الأمر.. مات العراب بينما لا تزال سياسات الصندوق تقتل الناس في سودان العم عبد الرحيم.

الخرطوم : الزين عثمان

صحيفة اليوم التالي

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى