ناهد قرناص تكتب: أرض النعام

أيام الشهادة السودانية في عزها.. وكانت النسب على قلتها تعني الكثير.. بلدياتي.. اجتهد كثيراً ليحرز مجموعاً يؤهله للدخول للكلية التي يرغبها.. لكنه لم يوفق.. فاعاد الكرة في السنة التي تليها.. واحرز درجة جيدة تعلو عن المجموع الفائت.. فرح كثيراً لأن حلمه سيتحقق أخيراً.. لكن يوم اذاعة نسب الدخول.. كانت فجيعته في ان درجات القبول تفرق عن المجموع الذي احرزه بواحد من عشرة.. فقال ساخراً.. (كان تذيعوا اسمي وتقولوا ما عايزين فلان الفلان يدخل الجامعة).. هذا الشخص درس كلية أخرى ونجح وتفوق فيها وصار من اعلام ذلك التخصص.
تذكرت قصة قريبي هذا.. وأنا أتابع احتجاجات الطلاب الذين احرزوا اكثر من 90% في الشهادة السودانية والاباء والامهات الذين تعبوا وتابعوا وساهروا وفرحوا بنجاح أولادهم.. لكن عندما حانت اذاعة نسب القبول.. كأنهم قيل لهم (ما عايزين أولادكم يدخلوا الكلية العايزنها)..راسلتني احدى الصغيرات.. قالت لي انها بحثت عن رقم هاتفي طويلاً.. فهي قد أحرزت 91% في العام السابق لكنها لم توفق في الدخول لكلية الطب جامعة الخرطوم في القبول العام.. اضطرت لاعادة السنة واحرزت 94.3%.. لكن القبول أجهض فرحتها في المهد.. فلم توفق في القبول في الطب أو طب الأسنان في جامعة الخرطوم.. ..قالت لي ان وضع أسرتها بسيط ولا تستطيع تحمل نفقات الخاص.. أيضاً لا تستطيع السفر بعيداً عن أهلها للدراسة في الولايات فالظروف الأسرية لا تسمح..
ماذا تفعل هذه الصغيرة أكثر من هذا؟ اجتهدت وساهرت واخلصت لتحرز درجة اقرب للكمال ومن ثم تأتي قوانين التعليم العالي لتحرمها من فرصة القبول العام لتفسح المجال.. لآخر بدرجات أقل.. لكن بأموال أكثر ليدرس الطب او الأسنان؟ .. ونتيجة تمدد التعليم الخاص واضحة وضوح الشمس كما ترون في كل مناحي الحياة.. (أنا ما بفسر وانتوا ما بتقصروا)..
زمان كانت الفرص للمنافسة متاحة للجميع.. وكنت ترى في جامعة الخرطوم كل السحنات والثقافات.. وعند التخرج يعود كل فرد الى منطقته لينشر العلم والوعي ويساهم في رفعة البلد.. لكن تكريس التخصصات المرموقة في طبقة معينة خلق فجوة كبيرة.. .ذلك ان أغلب أبناء هذه الطبقة لا يرغبون في الذهاب الى الأرياف ولا الخدمة في مناطق بعيدة عن العاصمة.. والنتيجة ان الخدمات صارت في منطقة واحدة نزح الجميع خلفها.. وتركوا الأرياف قاعاً صفصفا.
الطامة الكبرى.. ان القبول على النفقة الخاصة.. لا يعود على الجامعة بالنفع الكامل.. خاصة الجامعات الحكومية.. التي تشترط أموالاً ضخمة.. والقبول بالعملة الحرة.. ولكن عندما يتم توريده.. يذهب مباشرة الى المالية الاتحادية..التي ترفع شعار الداخل مفقود والخارج مولود.. وتصرفه حسب أولويات المالية.. وليس دعم الجامعات او التعليم من أولويات الميزانية.. الاولويات تذهب الى جهات معينة.. و(انت عارف وأنا عارف وهم عارفين).. اما الجامعات (الحال ياهو نفس الحال وفي جواي صدى الذكرى) بل أسوأ وأضل.. فالمباني تكاد تنهار.. والأجهزة قديمة قدم التاريخ .. والماكينات عفا عليها الزمن وصارت خارج نطاق التغطية.. اما الاساتذة فالبيداء دونهم.. فقد هاجر أغلبهم والباقي منهم تحدثه نفسه بالهجرة..
سمعت ان هناك خطوة لتصحيح الوضع وان التقديم للقبول العام سيتم فتحه مرة أخرى لمعالجة مشكلة المتفوقين .(طيب ما كان من الأول).. لمتين يا جماعة نظل نحن في دوامة القرار الذي يصدر دون دراسة.. ليتم تصحيحه بعد وقوع الفاس في الرأس؟ إلى متى ؟؟ يساورني شك ان كل قرار يتم اصداره.. يعكف آخرون على اعداد نسخة معدلة له.. فهم يعلمون أين تكمن المشكلة لكنهم يأملون في ان (تعدي) هذه المرة.. وهكذا دواليك.. لذلك نقول بكل وضوح.. توقفوا عن دفن الرؤوس في الرمال كالنعام.. نظام القبول بمؤسسات التعليم العالي يحتاج الى اعادة صياغة.. ولو أردنا الحق.. فانه يحتاج الى اعادة ضبط المصنع.

 

 

صحيفة الجريدة

Exit mobile version