مزمل ابوالقاسم

مزمل أبو القاسم يكتب: اللهم لطفك

‏* استعرضنا في مقال الأمس الخيارات المتاحة أمام الدكتور جبريل إبراهيم، وزير المالية الجديد، وذكرنا أن المعضلة الرئيسية التي يواجهها تتمثل في عدم وجود برنامجٍ اقتصاديٍ وطنيٍ للحكومة الحالية، لأن الوصفة المطبقة حالياً وُضعت بكاملها خارج البلاد، بأمر مجموعة أصدقاء السودان، التي ربطت دعمها للبلاد بتنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي الهيكلي، لصندوق النقد الدولي.

* تستهدف الوصفة تأهيل السودان للحصول على مساعدات من مؤسسات التمويل العالمية والمجتمع الدولي، برفع الدعم عن كل السلع الاستراتيجية والخدمات الأساسية، وتعويم الجنيه، وبالأمس أكملت الحكومة تنفيذ الوصفة الخطيرة بالخطوة الأخيرة عبر إعلان التعويم، على أمل أن يتدفق الدعم على خزائنها الخاوية، لمساعدتها على مواجهة الآثار الجانبية العاصفة للوصفة القاسية.

* الحقيقة أن ما فعلته الحكومة أمس لا يُعدُّ تعويماً بالمعنى المفهوم، لأن البنك المركزي سيتدخل لتحديد سعر العملات الأجنبية في مواجهة الجنيه كل صباح، وهي الخطوة ذاتها التي أقدمت عليها حكومة العهد البائد في عهد معتز موسى، رئيس وزرائها قبل الأخير، بما يسمى (آلية صُنَّاع السوق)، وأخفقت في كبح جماح الدولار، مثلما فشلت في إصلاح حال الاقتصاد.

* سيكون صعباً على المصارف التجارية والصرافات أن تنافس تُجّار العملة، لجهة أنها لا تمتلك رصيداً كافياً من العملات الأجنبية، كحال الحكومة، ذات الرصيد الصفري منها.

* تحولت تجارة العملة إلى مؤسسةٍ اقتصاديةٍ ضخمة عبر السنوات، لتتحكم في أسعار العملات الأجنبية بتجارةٍ رابحةٍ، يبلغ حجمها مليارات الدولارات كل عام.

* صعوبة منافسة الحكومة لتلك المؤسسة النهِمة تكمن في أن تجار العملة لا يمتلكون أي التزامات تحول بينهم وتدوير أموالهم مراراً، لأنهم ليسوا ملزمين بالصرف على الأمن والدفاع والصحة والتعليم والماء والكهرباء والدواء مثل الحكومة، وليس لديهم (بند أول) للمرتبات، ولا منصرفات إدارية رأسية، ولا التزامات راتبة تجاه المواطن بما يتصل بالسلع والخدمات الأساسية، إذ أنهم يديرون حساباتهم بهواتفهم الشخصية، من داخل سياراتهم أو عبر مكاتب صغيرة، لا تكلفهم شيئاً.

* ظلت الحكومة (في كل العهود) الداعم الأول لتلك المؤسسة الضخمة، لكونها أكبر مشترٍ للدولار منها، وحكومة حمدوك نفسها لم تكن استثناءً من تلك القاعدة الموجعة، إذ ثبت أنها اشترت أكثر من أربعمائة مليون دولار من السوق الموازية كي تسدد بها تعويضات الضحايا الأمريكان لتفجيرات المدمرة (كُول) والسفارتين.

* خسفت موجة الشراء العاتية تلك الأرض بالجنيه السوداني، وتسببت في إفقاده أكثر من (500‎%‎) من قيمته، عندما ارتفع سعر الدولار من (80) جنيهاً في يناير 2020، إلى أكثر من (400) جنيه في يناير من العام الحالي.

* تطبيق مثل هذا القرار القاسي يتطلب وجود رصيدٍ كافٍ من العملات الأجنبية لدى البنك المركزي، كي يتدخل به عند الحاجة لدعم وتثبيت السعر الذي حدده للدولار (375 جنيهاً)، ويمنع تُجار العملة من ابتداع هامش جديد للمناورة بين الموازي والرسمي.

* أمس ذكر الدكتور جبريل أنهم تلقوا بعض التدفقات المالية من الخارج، وينتظرون المزيد، وكان عليه أن يُعلن الأرقام، كي يهدئ من ثائرة السوق الموازية، التي رفعت سعرها في اليوم نفسه إلى حدود (390) جنيهاً.

* لن يقوى المواطن على الانتظار حتى شهر مارس المقبل المُحدَّد لتلقي الدفعة الأولى من الدعم الدولي للبلاد، وسترتفع أسعار السلع تبعاً لارتفاع أسعار العُملات الأجنبية في الموازي، لتمتحن صبر محدودي الدخل، والفقراء الذين صاروا يمثلون غالب أهل السودان.

* ما عاد في قوس الصبر منزع، لمن الْتهم الغلاء والتضخم قدراتهم الشرائية، وأصبحوا يعانون الأمرّين لتوفير قوت أيامهم، في ظل تأخر الدولة عن دعمهم ببرامج موازية تستهدف إعانتهم على تحمل موجة الغلاء العاتية، وإذا اكتملت الناقصة برفع أو تحرير سعر الدولار الجمركي فستكون المحصلة بالغة القسوة على غالب أهل السودان.

* ستظهر الآثار الجانبية لوصفة الصندوق المتوحشة بتفكك الأسر وكثرة حالات الطلاق وتسرب الأطفال من المدارس، وتضعضع الأمن وتفشي الجريمة، فهل يكفي رفع معدل الاستعداد عند الشرطة إلى (100‎%‎) لمواجهة تلك التداعيات الكارثية، في مجتمعنا الموبوء بالفقر والغلاء والتضخم تبعاً لقسوة قلوب الحاكمين على المحكومين؟

* اللهم لطفك بأهل السودان فأنت أعلم بحالهم.

 

 

 

 

صحيفة اليوم التالي

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى