البروفيسور عمر هارون.. هل طار السمبر بعيداً

عاد البروفيسور والعالم السوداني البارز عمر هارون الخليفة، في أحد الأيام من سبتمبر العام 2012 إلى منزله بضاحية الصافية بالخرطوم بحري ظهراً، ثم خرج عصراً بملابس الرياضة ليمارس رياضة المشي على ضفاف النيل كعادته كل يوم، ولكنه لم يعد إلى يوم الناس هذا.
البروفيسور عمر هارون، المختفي منذ 15 سبتمبر 2012
لجنة تحقيق
وقال علي هارون، شقيق البروفيسور عمر، للصحافة الأسبوع الماضي، إنّ النيابة بدأت تحركات للتعرف على ملابسات اختفاء شقيقه عمر، بعد نحو 6 أشهر من تشكيل لجنة تحقيق لهذا الغرض، وأكّد على أنّ عائلته طلبت استجواب عدد من قيادات النظام السابق لترجيح وقوفهم خلف اختفاء أخيه، وأشار إلى أن لجنة التحقيق التي شكلها النائب العام ستحقق مع المُشتبهن لتوجيه الاتهام لهم، أو تبرئتهم.
وكشف علي هارون، عن أنّ جهات لم يسمها، أخفت ملف قضية شقيقه من مكاتب المباحث الجنائية في عهد النظام السابق، وأن السلطات تتحرى حالياً للوصول إلى المتورطين في جريمة سرقة الملف.
وكان خبر اختفاء البروفيسور عمر هارون صادماً للمجتمع السوداني، واستنفرت له كل الجهات المُختصة امكانياتها، وكذا الإعلام. وتمّ لاحقاً تكوين لجنة عليا برئاسة المشير الراحل عبد الرحمن سوار الذهب – حيّا قبره الغمام – للكشف عن خبايا الحادثة، وعن مصير العالم المفقود.
لم تفلح التحقيقات في كشف أسرار هذا الاختفاء الغامض في وضح النهار. ورغم الغياب الذي امتد إلى ثمانِ سنوات، ما تزال الآمال معلّقة في خيط يكشف عن حقيقة اللّغز الكبير.
طائر السمبر
العالم السوداني البارز عمر هارون، حاصل على الدكتوراة في علم النفس من جامعة نيوكاسل البريطانية. وكان يعمل وقتها، أستاذاً بجامعة الخرطوم وأستاذاً زائراً في جامعة كيوتو باليابان، ومُستشاراٍ للهيئة القومية لرعاية الموهوبين، بعد أن أدخل برنامج اليوسيماس (العبق). وبدأ مشروعاً طموحاً للكشف عن الأطفال الموهوبين في مناطق السودان المختلفة، سمّاه (مشروع طائر السمبر).
ويعد مشروع طائر السمبر، من أهم الأفكار والأعمال التي ابتدرها البروفيسور هارون وعقدت عليه آمالاً عراضاً. وطائر السمبر (اللقلق الأسود)، طائر موسمي في السودان. ولعلّ ملكات البروفيسور هارون المُتفرّدة، تظهر بجلاء، في اختياره لاسم المشروع، بما يحمل الاسم من صفات الطائر ورمزيّات جمعها في شعار مُختصر أخاذ، يذخر بالمعاني، لأن طائر السمبر يُراكم خبرات ومهارات أسلافه عبر السنين، ويستعين بها في هجراته الموسمية عبر رحلاته القارية الطويلة، فهو طائر مهاجر، يأتي إلى السودان مع بداية فصل الخريف، فيستبشر الناس لرؤيته بهطول المطر، علاوة على خبرة الطائر الفائقة في الملاحة الجوية.
ويذكر علماء الطيور، أنّ للطائر جهاز توجيه، يشبه إلى حدٍ كبير، جهاز الـ GPS، يستخدمه الطائر في رحلاته الطويلة، ويعود به العام القادم إلى نفس العش الذي تركه العام الماضي!
السمبر، طائرٌ وفيٌ، ذكيٌ وحريص. يطير في الأعالي فوق مجرى الأنهار والمياه ويتفادى الصحاري القاحلة، وينزل إلى الماء والغذاء، ويراه بعينه الثاقبة وهو في أعلي نقاط الطيران.
لنا أن نتأمل في هذا الزخم، من الرمزيات التي جمعها بروفيسور هارون، لتكون عنواناً لمشروعه الطموح الكبير، ليبدو الأمر وكأنّ الرجل يكتب مقالاً ضافياً في كلمتين، يشرح فيهما ملامح مشروعه الذي يستند على تراكم الحضارات، ويرتقي إلى معالي العلم والتكنلوجيا، ويبصر بعين السمبر الحادّة ويلتقط الأطفال الأذكياء والمواهب المتفرّدة، تماماً كما يهبط السمبر من الأعالي ليصطاد دودة في خبأ، غفل عنها الجميع وتُركت في أطراف الحقل، أو هكذا يُترك جُلّ الأطفال من النابهين والعباقرة، دون اكتشاف مواهبهم أو رعايتهم.

إحدى كتب البروفيسور عمر هارون الخليفة
عبقرية اليوسيماس
لعلّ سيرة البروفيسور عمر هارون الخليفة الذاتية، وأبحاثه منشورة على الشبكة بما يغني عن ايرادها في هذا الحيز، إنما مختصر مسيرته يكشف أنّه نال درجة الدكتوراه من جامعة نيوكاسل، والأستاذية في جامعتي الخرطوم وكيوتو اليابانية، وله عددٌ كبيرٌ من الأبحاث والمؤلفات في تطبيقات علم النفس، ونال العديد من الجوائز المرموقة دولياً. منها، جائزة شبكة العلوم النفسية العربية للعام 2010.
أسّس مشروع (طائر السمبر) الذى يُعنى باكتشاف الأذكياء وذوي الملكات العقلية الخارقة من أطفال السودان، بغرض تدريبهم ورعايتهم وتوجيههم لمستقبل علمي أفضل. كما أسّس مشروعاً للتدريب على برنامج (العبق/ اليوسيماس)، وحصد نتائج غرسه سريعاً بالنظر إلى النتائج الباهرة التي أحرزتها الدفعات الأولى من أطفال السودان من طلابه في منافسات اليوسيماس حول العالم. وكان هذا النجاح، مصدر سعادة للبروفيسور هارون.
ويُعتبر برنامج اليوسيماس، وسيلة لتدريب الأطفال من أجل تحسين المهارات الذهنية، وتعتمد على فكرة تنشيط القدرات العقلية العملية في نصف الدماغ الأيمن (مركز الخيال والابداع)، علاوة على زيادة فعالية النصف الأيسر، عبر التدريب على إجراء العمليات الحسابية باستخدام آله يدوية صغيرة، وقد أثبتت الأبحاث التي تمت لاحقاً على طلاب برنامج اليوسيماس، الفوائد المُتعددة للبرنامج في تنمية القدرات الذهنية لدي الأطفال. منها، تنمية التحصيل في الرياضيات. كما يزيد البرنامج، من الذاكرة العددية للأرقام الطردية والعكسية لدى الأطفال عند قياسها في الأبحاث بمقياس وكسلر لذكاء الأطفال، مقارنة بغير المتدربين، بجانب أنّ التدريب على برنامج اليوسيماس، ينمّي الذاكرة البصرية لدى المُتدرّبين عند قياسها بالبطاقات التعليمية وأسطوانة الذاكرة. وقد كان حلم البروفيسور هارون الذي عمل من أجله بجد، أن يغيّر فلسفة التعليم في البلاد، عبر اكتشاف المواهب العلمية وصناعة العباقرة.
هل غفل السمبر؟
ما يزال اختفاء البروفيسور عمر هارون الفاجع، يخفي الكثير من الأسرار. لكن يبقى السؤال المُهم: هل يعود البروفيسور هارون يوماً ليستكمل ما بدأه من مشاريع جليلة، أم تبقي قصته مجرد سيرة أنيقة لرجل نبيل وعالم جليل أراد أن يغيّر مستقبل بلاده بما يرفعها إلى مراقي العلم والتقدم؟!
تتعدد الأسئلة المنطقية عن المصير الغامض لهذا العالم الفذ، وإن كان نشاطه العلمي الكبير قد أزعج بعض الجهات فقرّرت ايذاءه، أم أن طائر السمبر الحصيف قد غفل لحظة، وطار بعيداً عن ضفة النهر.
د. أبوبكر خليل شداد
صحيفة ( حكايات)